تصريحات حركة “حماس” الأخيرة حول المفاوضات غير المباشرة الجارية في الدوحة، والمحادثات المباشرة مع الولايات المتحدة، تمثل تحولاً تكتيكياً في خطاب الحركة، يعكس قراءة جديدة للمشهد السياسي والإنساني والعسكري في قطاع غزة. في ظل الدمار الشامل الذي حلّ بالقطاع، والضغط الشعبي المتصاعد، والتهديدات الإسرائيلية المتواصلة، تحاول حماس اليوم إعادة التموضع، لكن دون أن تُفصح بشكل كامل إن كانت مستعدة لتقديم تنازلات حقيقية تتجاوز اللغة الدبلوماسية.
تنحي حماس عن حكم غزة
إعلان بدء المفاوضات “بدون شروط مسبقة” برعاية قطرية مصرية، يفتح الباب أمام احتمالات عديدة، لكنه في الوقت نفسه لا يلغي الشكوك حول نوايا الحركة، لا سيما وأن الخطوط العريضة التي قدمتها – والتي تشمل وقف الحرب، تبادل أسرى، انسحاب إسرائيلي، فتح المعابر، والإعمار – تعكس شروطاً تفاوضية وليست تنازلات، وتوحي بأن الحركة تسعى لضمان الحد الأدنى من مكاسب سياسية تعوّضها عن الخسائر الميدانية.
لكن اللافت في التصريحات كان إشارة باسم نعيم، القيادي في الحركة، إلى “إمكانية تنحي حماس عن حكم غزة من أجل تحقيق السلام”. هذه الجملة تحديداً تُثير الكثير من الأسئلة، ليس فقط لجرأتها السياسية، بل لأنها تحمل وجهاً مزدوجاً: فمن جهة، قد تُفهم كخطوة نحو إنهاء الانقسام الفلسطيني، ومن جهة أخرى، قد تُستخدم كورقة تفاوضية تكتيكية في لحظة شديدة الحرج.
توتر العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة
حماس، التي تواجه اليوم وضعاً كارثياً داخل غزة، تدرك أن إدارة القطاع في ظل الحصار الشامل والدمار شبه الكامل أصبحت عبئاً لا يمكن تحمّله دون دعم دولي مباشر. وفي ظل غياب أي أفق حقيقي لإعادة الإعمار، ومع التهديد الإسرائيلي المستمر بعملية عسكرية شاملة، لا يبدو أن الحركة تملك ترف المناورة إلى ما لا نهاية. ومع ذلك، فإن عرضها “بإمكانية” التخلي عن الحكم لا يعني أنها قررت فعلياً مغادرة المشهد، بل قد يكون محاولة لكسب الوقت، واحتواء الضغط الدولي، وفتح قنوات جديدة مع واشنطن.
ما يعزز هذه الفرضية هو توقيت التصريحات، الذي تزامن مع مؤشرات توتر في العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة، وظهور انزعاج أميركي من مواقف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. حماس تدرك أن هناك نافذة فرصة صغيرة لإعادة تقديم نفسها كطرف قابل للتعامل الدولي، وليس مجرد تنظيم “مارق”. ولهذا تبادر الآن إلى استخدام لغة دبلوماسية جديدة، تتحدث عن حلول شاملة، واستعداد لتسويات، وحتى مراجعة لدورها في غزة.
ومع ذلك، فإن الشكوك تبقى قائمة حول مدى استعداد الحركة فعلياً للتخلي عن السلطة في القطاع، وهي التي بنت طوال سنوات منظومة حكم متكاملة، ولها جهاز أمني وعسكري واقتصادي خاص. التنازل عن الحكم يعني – من وجهة نظرها – خسارة الموقع الاستراتيجي الوحيد الذي تمتلكه داخل الأراضي الفلسطينية، وتهديداً مباشراً لكيانها السياسي.
مناورة محسوبة
بالتالي، يمكن قراءة تصريحات حماس على أنها مناورة محسوبة، تهدف أولاً إلى امتصاص الغضب الشعبي الداخلي، وثانياً لإرضاء الوسطاء الدوليين، وثالثاً لإعادة بناء صورتها كحركة سياسية مسؤولة، وليس مجرد فصيل مسلح. وهي تسعى في هذا السياق لأن تكون جزءاً من أي ترتيبات مستقبلية لمرحلة ما بعد الحرب، سواء من خلال المشاركة في حكومة وحدة، أو بقاء نفوذها عبر وكلاء أو تفاهمات أمنية.
حماس لا تزال تحاول التوازن بين الواقع العسكري والإنساني المرير الذي فرضته الحرب، وبين الحفاظ على كيانها السياسي كفاعل مركزي في الساحة الفلسطينية. والمفاوضات التي تخوضها اليوم قد تكون فعلاً نقطة تحول، لكن نجاحها يعتمد على مدى جدية الحركة في مراجعة تمسكها بالحكم، واستعدادها لأن تكون جزءاً من مشروع وطني جامع، لا سلطة موازية تحكم بالانقسام. وحتى يتحقق ذلك، تبقى تصريحاتها مفتوحة على احتمالات متعددة، من الانفتاح الصادق إلى المناورة السياسية المحسوبة.