برزت مؤخرًا مؤشرات على إمكانية فتح نافذة دبلوماسية، تقودها واشنطن بحذر، وسط استعدادات عسكرية مكثفة لا تنفي احتمال التدخل الأميركي المباشر. وقد أوضحت المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارولين ليفيت، أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب ما زال يمنح المسار السياسي فسحة زمنية تمتد لأسبوعين قبل اتخاذ القرار بشأن عمل عسكري محتمل ضد طهران، في ظل ما وصفته بتنامي احتمالات انطلاق مفاوضات مباشرة.
مهلة للدبلوماسية… وخطوط حمراء مرئية
وفقًا لتصريحات ليفيت، فإن الإدارة الأميركية قررت إرجاء القرار العسكري بهدف إعطاء فرصة للمفاوضات النووية مع إيران، رغم الإحباط من رفض طهران الاستجابة حتى الآن لدعوات الحوار. وأكدت ليفيت أن الرئيس ترامب «لا يزال يفضّل الدبلوماسية إذا كانت متاحة»، مشيرة إلى أنه «المبعوث الرئيسي للسلام، لكنه لن يتردد في استخدام القوة عند الضرورة».
كما نقلت المتحدثة عن ترامب قوله إن القرار بشأن توجيه ضربة سيُتخذ خلال أسبوعين، وإن هذه المهلة ليست مفتوحة، بل مرتبطة بمؤشرات ملموسة على نية طهران الانخراط في تفاوض مباشر.
إيران: لا مفاوضات في ظل العدوان
على الجانب الإيراني، كان الرد صارمًا. ففي مقابلة بثها التلفزيون الرسمي، رفض وزير الخارجية عباس عراقجي أي تفاوض مع واشنطن في ظل استمرار الهجمات الإسرائيلية، قائلاً إن «الأميركيين بعثوا عدة مرات رسائل تدعو إلى المفاوضات، لكننا أوضحنا أنه طالما لم يتوقف العدوان، فلا مجال للدبلوماسية». الموقف الإيراني يعكس إحساسًا بأن التفاوض تحت القصف سيُفقد طهران ماء وجهها الإقليمي والدولي، وهو ما تحاول تجنّبه بكل الوسائل.
استعدادات ميدانية: سحب الطائرات وإعادة التموضع
ورغم اللهجة الدبلوماسية، فإن التحركات الأميركية على الأرض تعكس إدراكًا لإمكانية فشل المسار السياسي. إذ أظهرت صور أقمار صناعية أن قاعدة “العديد” الأميركية في قطر فرغت بشكل شبه كامل من طائراتها بين 5 و19 يونيو. هذه الخطوة اعتُبرت إجراءً احترازيًا لحماية الأصول العسكرية من أي رد إيراني محتمل. ووفقًا لمذكرة نشرتها السفارة الأميركية في الدوحة، نُصح الموظفون بـ«توخي الحذر» وتقييد الوصول إلى القاعدة.
وفي تحليل للموقف، أشار الجنرال الأميركي المتقاعد مارك شوارتز إلى أن «مجرد تساقط شظايا قد يجعل القاعدة غير قادرة على تنفيذ أي مهمة». وهو ما يفسّر، بحسب مراقبين، قرار واشنطن بإعادة توزيع أصولها في المنطقة وتفعيل منظومات نقل وتزود بالوقود، تحسبًا لتطورات سريعة.
تصعيد مستمر في طهران وبئر السبع
على الأرض، لم تتوقف الضربات. فقد أعلن الجيش الإسرائيلي، الجمعة، تنفيذ غارات واسعة على عشرات الأهداف في طهران، من بينها مراكز إنتاج صواريخ ومقرات منظمة الابتكار الدفاعي الإيرانية المسؤولة عن برنامج الأسلحة النووية. وأكد الجيش أن الغارات طالت منشآت عسكرية ومصانع مواد أولية تُستخدم في تصنيع المحركات الصاروخية، بينما اعترضت الدفاعات الجوية الإسرائيلية أربع مسيّرات إيرانية.
في المقابل، أصاب صاروخ إيراني موقف سيارات ومبنى في مدينة بئر السبع جنوب إسرائيل، مما أدى إلى وقوع إصابات، فيما أفادت تقارير إعلامية إسرائيلية غير مؤكدة بمقتل عالم نووي إيراني في غارة استهدفت مبنى بطهران.
تحركات أوروبية محتشمة
في موازاة التصعيد، ينتظر أن يعقد وزراء خارجية أوروبيون لقاء في سويسرا مع نظيرهم الإيراني، في محاولة لاحتواء التدهور الكبير. هذا التحرك يعكس رغبة أوروبية في إبقاء قنوات التواصل مفتوحة، رغم إدراك الجميع أن القرار الحاسم بات اليوم في يد واشنطن، التي توازن بين ضغوط حلفائها الإسرائيليين ورغبتها في تجنب حرب إقليمية شاملة.
بين الحرب والصفقة… أي طريق ستسلكه واشنطن؟
الرئيس ترامب، المعروف بميله لاستعراض القوة من جهة، وتفضيله “الصفقات الكبرى” من جهة أخرى، يجد نفسه أمام مفترق حاسم: إما تثبيت الهيبة الأميركية من خلال ضربة تأديبية واسعة، وإما إقناع طهران بالدخول في تفاوض يُنهي التهديد النووي ويُعطي للرئيس الجمهوري ورقة سياسية قوية عشية الانتخابات. لكن المسألة لا تتعلق فقط بالنوايا الأميركية، بل بكيفية استجابة إيران لمعادلة “التهدئة مقابل الكرامة”، وهي معادلة شائكة في ضوء ما تعيشه القيادة الإيرانية من ضغوط داخلية وإقليمية.
في الانتظار: أسبوعان لاختبار نوايا الخصوم
بين دبلوماسية على المحك، واستعدادات ميدانية تشير إلى أن “الضربة” لا تزال احتمالًا واقعيًا، تعيش المنطقة لحظة مفصلية. أسبوعان فقط قد يُحدّدان ملامح المرحلة المقبلة: إما انفتاح نحو تسوية معقولة تحفظ للطرفين خطوطهما الحمراء، أو انزلاق نحو جولة جديدة من الصراع، هذه المرة بمشاركة أميركية مباشرة.
وحتى تنقضي هذه المهلة، يبقى العالم يترقّب: هل ستكسب الدبلوماسية الجولة الأخيرة؟ أم أن لغة القوة ستفرض نفسها مجددًا على حساب كل الحسابات العقلانية؟