لا أحد يختار أن يكون طالبًا في زمن تتقاطع فيه السياسة مع الطفولة. في القدس الشرقية، حيث لا شيء يمرّ ببساطة، أُجبر المئات من طلاب مدارس الأونروا على ترك مقاعدهم الدراسية، لا بسبب ضعف في التحصيل أو غياب طويل، بل لأن المؤسسة التي كانت ترعاهم تعليمًا وذاكرة، وجدت نفسها تُحاصر بسلسلة من الإجراءات التي لا تعترف بالطالب كقضية، بل كرقم يجب شطبه من السجل.
الخبر الرسمي بدا مطمئنًا: “تمّ إيجاد حلول لجميع الطلاب المتضررين”. لكن ما لا تقوله البيانات هو ما يحدث بين الإعلان وبين الحقيقة. على مواقع التواصل، تُتداول شهادات لأهالٍ يتحدثون عن أطفال يدرسون عبر تطبيق “زووم”، وآخرين ينتظرون قرارًا أو توصية ليعرفوا أي مدرسة سترتضي استقبالهم في منتصف العام. الحكاية ليست فقط في إيجاد “مكان بديل”، بل في القدرة على التكيّف، في الاستيعاب، في الصدمة التي يمر بها الطفل حين يُنتزع من مقعده، من أصدقاء تعوّد عليهم، من معلمة تعرف نبرة صوته حتى لو لم يرفع يده.
ثمّة من يحتفل بإنجاز يُحسب للمؤسسات التعليمية الفلسطينية، نعم. لكن الإنجاز، في مثل هذا السياق، لا يجب أن يُقاس بعدد الطلاب الذين عُثر لهم على مقاعد، بل بمدى الأمان النفسي الذي توفره هذه المقاعد. هل شعر الطالب بالأمان؟ هل عادت له رغبته في الاستيقاظ باكرًا؟ هل توقفت أمه عن القلق من أن يتسكع في البيت طويلًا بانتظار “حلّ إداري”؟
ووسط كل هذا، تبرز الحاجة المُلّحة إلى أن نُعيد النظر في دور المدرسة. فلتبقَ المدرسة مساحة للعلم، لا ساحة لتصفية الحسابات السياسية. لتبقَ الحصة الدراسية لحظة هروب من واقع مرير، لا امتدادًا له. لا يجوز أن يُعاقب الطفل على خلفية قرارات سياسية، ولا أن تتحوّل المدارس إلى ورقة في لعبة شد الحبال بين القوى المختلفة.
وهنا، لا يكفي أن تتدخّل المجتمعات المحلية فقط. إن المسؤولية الأخلاقية تقع على المجتمع الدولي بأسره. من واجبه أن يتحرّك، ليس فقط لإنقاذ مقاعد دراسية أُغلقت، بل لحماية جوهر العملية التعليمية في فلسطين، والدفاع عن حق أصيل اسمه “التعليم”. إعادة فتح المدارس التي أُغلقت تحت ذرائع أمنية أو سياسية يجب أن يكون أولوية دولية، لا بندًا هامشيًا في تقارير موسمية.
في القدس، التعليم ليس فقط حقًا، بل هو أيضًا شكل من أشكال المقاومة اليومية. والطفل المقدسي الذي يُنتزع من مدرسته، يُنتزع من حكاية، من ذاكرة، من طمأنينة نحن بأمسّ الحاجة للحفاظ عليها. لا نحتاج إلى مدارس بديلة فحسب، بل إلى خطاب تربوي جديد يعترف بأن المدرسة، حين تُغلق، لا يُغلق معها الصف فحسب، بل تُقفل أبواب على قصص لم تُكمل بعد.
لذلك، فإن دعوتنا اليوم ليست فقط إلى أولياء الأمور والمعلمين لدعم الطلاب، بل إلى كل من يؤمن بأن التعليم ليس ترفًا، بل حقّ مقدّس. المدرسة ليست جدرانًا ولا طاولات. المدرسة ذاكرة جماعية، وأي عبث بها هو عبث بالهوية.