لم تكن المكالمة التي جمعت بين الرئيس الأمريكي السابق والمرشح المحتمل للعودة إلى البيت الأبيض، دونالد ترامب، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين مجرد خطوة دبلوماسية عابرة، بل قد تكون لحظة مفصلية في مسار الحرب المستمرة منذ أكثر من ثلاث سنوات بين روسيا وأوكرانيا. ترامب، الذي بدا واثقاً من نبرة التفاؤل التي سادت الاتصال، وصف المحادثة بأنها “رائعة”، بينما أعلن عن بدء مفاوضات فورية بين موسكو وكييف لوقف إطلاق النار.
ترامب يعود إلى المشهد الدولي بوساطة جريئة
تصريحات ترامب، التي جاءت في وقت يشهد فيه المشهد السياسي الأمريكي تصاعداً في الجدل حول سياساته الخارجية، بدت أشبه بإعلان نوايا لعودة قوية إلى الساحة الدولية، حتى قبل أن يفوز – إن فاز – في الانتخابات المقبلة. من خلال الاتصال المطول الذي استمر ساعتين مع الرئيس الروسي، حاول ترامب أن يضع نفسه في موقع الوسيط المؤثر القادر على تحريك الجمود في الأزمة الأوكرانية، وهو ما ينسجم مع خطابه المتكرر حول “إنهاء الحرب خلال 24 ساعة” إذا عاد إلى الحكم.
لكن الأهم من التصريحات كان فحواها: روسيا، حسب قوله، مستعدة للدخول في مفاوضات مباشرة، وتبحث عن اتفاق سلام، فيما تبدي اهتماماً باستئناف التجارة مع الولايات المتحدة، في حال طُويت صفحة الصراع العسكري. نبرة ترامب لم تخلُ من الترويج السياسي لنفسه، لكنه بدا هذه المرة أكثر حرصاً على إظهار دور فعلي في تسوية محتملة، حتى قبل نيله أي منصب رسمي.
موسكو ترحّب: انفتاح على “مذكرة تفاهم” ومحادثات إسطنبول في الخلفية
من جانبها، لم تتأخر موسكو في تأكيد ما قاله ترامب. بوتين أعلن أن بلاده مستعدة لصياغة مذكرة تفاهم مع أوكرانيا بشأن اتفاقية سلام، مشيراً إلى أن المحادثات التي جرت بين الطرفين مؤخراً في إسطنبول كانت “في الاتجاه الصحيح”. ورغم عدم صدور موقف رسمي من كييف حتى الآن، إلا أن الحديث الروسي عن مفاوضات مباشرة قد يشير إلى وجود قنوات اتصال خلف الكواليس، أو على الأقل استعداد مبدئي للتهدئة.
الوثيقة التي تحدّث عنها بوتين، والتي قد تتضمن وقف إطلاق نار مشروط، تسعى – على ما يبدو – إلى خلق أرضية تفاوضية لا تلزم أحداً بتنازلات فورية، لكنها تسمح بتجميد النزاع جزئياً، وإعادة خلط الأوراق بما يناسب الطرفين. ويُرجّح أن موسكو تراهن على تغير في التوازنات السياسية الدولية، خصوصاً مع احتمال فوز ترامب في الانتخابات، ما قد يغيّر موقع واشنطن بالكامل من دعم كييف إلى دعم تسوية تحفظ مصالح موسكو.
الخليط بين السياسة والتوقيت: لحظة مناسبة أم مغامرة غير محسوبة؟
السؤال المطروح الآن: هل تشهد الحرب الأوكرانية فعلاً لحظة انعطاف، أم أن ما يجري هو مجرد حملة علاقات عامة دولية من جانب ترامب؟ في كل الأحوال، يبدو أن الكرملين قرأ الرسالة جيداً، وأدرك أن ترامب لا يتحدث من فراغ، بل من موقع سياسي متنامٍ داخل الولايات المتحدة.
لكن في المقابل، تبقى الحسابات الأوروبية مختلفة. فالعديد من العواصم الأوروبية، التي استثمرت دبلوماسياً وعسكرياً في دعم أوكرانيا، قد تنظر بريبة إلى وساطة من خارج الأطر الرسمية، خصوصاً إذا جاءت من شخصية أثارت خلال ولايتها السابقة الكثير من الجدل حول مدى التزامها بحلف الناتو والسياسات الأوروبية المشتركة.
مستقبل غامض ولكن مبادرة مطروحة
سواء كانت هذه المبادرة قابلة للتحقق الفوري أم لا، فإنها على الأقل تشير إلى تحرك في المياه الراكدة. استمرار الحرب، واستنزاف الأطراف، وتراجع الحماس الدولي لتمويل صراع مفتوح، كلها عوامل تجعل من أي مبادرة جدية موضع ترحيب.
قد لا تكون مكالمة ترامب-بوتين بداية النهاية، لكنها بلا شك بداية لمسار جديد يُعيد خلط التحالفات، ويُعيد طرح الأسئلة الكبرى حول مستقبل الصراع في أوكرانيا، ودور القوى الكبرى في صناعته وإنهائه.