في ظهيرة يوم الجمعة، وتحديدًا عند الساعة الثالثة، افتتح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الدورة الرابعة من منتدى أنطاليا للدبلوماسية، بحضور لافت لعدد من رؤساء الدول والحكومات ووزراء الخارجية وممثلي منظمات دولية. لم يكن هذا الحدث مجرّد لقاء سنوي اعتيادي للدبلوماسيين، بل بدا أقرب إلى لوحة سياسية متكاملة، رسمت من خلالها أنقرة ملامح طموحها في عالم متغيّر، يئن تحت وطأة الحروب والنزاعات والتحولات التكنولوجية المتسارعة.
منصة أنطاليا هذه المرة لم تكن فقط منبرًا تركيًا للحوار، بل كانت أداة جيوسياسية بعيدة المدى، أراد أردوغان أن يجعل منها شاهدًا على تطوّر الدبلوماسية التركية من موقع المتلقّي إلى موقع المبادِر. الحضور الكثيف الذي ضم أكثر من أربعة آلاف مشارك من 148 دولة، بينهم 19 رئيس دولة وحكومة و52 وزير خارجية، لم يكن مجرد حشد عدد بل انعكاس لتوسّع النفوذ التركي في الدبلوماسية الدولية، وخاصة بعد أن نجحت أنقرة في السنوات الأخيرة في الترويج لنفسها كوسيط موثوق في الملفات الكبرى، من أوكرانيا إلى جنوب القوقاز، ومن ليبيا إلى إفريقيا.
خطاب أردوغان في افتتاح المنتدى لم يخرج عن هذا السياق. فقد قدّم رؤية متكاملة حول الدبلوماسية في أزمنة الاضطراب، مبرزًا أن العالم لم يعد يحتمل استمرار نظام دولي قائم على احتكار القرار وازدواجية المعايير. تحدث عن الصراعات التي عصفت بعالم ما بعد كورونا، وأدان تقاعس القوى الكبرى عن إنهاء المآسي التي يشهدها الشعب الفلسطيني في غزة، موجهًا انتقادات مبطنة للنظام الدولي الذي بات عاجزًا عن حماية القانون الإنساني. في الوقت نفسه، لم يُخفِ الرئيس التركي سعيه إلى ترسيخ موقع بلاده بوصفها قوة توازن لا تميل بالكامل لأي من المحاور العالمية، مستندًا إلى خطاب مبدئي يجمع بين الأخلاقي والسياسي، بين المصلحة القومية والرؤية الإنسانية.
اللافت أن المنتدى لم يكتف بتناول الملفات الكلاسيكية في السياسة الدولية، بل امتد إلى مواضيع غير تقليدية تعكس قلق العالم من المستقبل، مثل مخاطر الذكاء الاصطناعي وتغير المناخ وتفاقم الفجوات الاجتماعية. بهذه الطريقة، أرادت تركيا أن تُظهر للعالم أنها ليست فقط مهتمة بملفات الشرق الأوسط وروسيا والاتحاد الأوروبي، بل أيضًا منخرطة في النقاش الكوني حول شكل العالم الجديد.
ضمن هذا الإطار، كان لزوجة الرئيس، السيدة أمينة أردوغان، دورٌ رمزيٌّ مهمّ من خلال رعايتها لجلسة حول “المرأة والسلام والأمن”، لتقدم بذلك بُعدًا ناعمًا للصورة التركية، وتساهم في بناء سردية تكميلية تسعى من خلالها أنقرة إلى تحسين صورتها في الغرب، خصوصًا في الملفات المتعلقة بحقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين.
منتدى أنطاليا بهذا الشكل، لم يكن مجرّد واجهة دبلوماسية لتركيا، بل مختبرًا حقيقيًا لأفكار أردوغان عن النظام العالمي. أردوغان الذي يرى أن عالم ما بعد الغرب قد بدأ فعليًا، وأن موازين القوى القديمة لن تعود كما كانت. لذلك، فإن أنطاليا بالنسبة له لم تكن مجرّد مدينة على ساحل المتوسط، بل بوابة رمزية نحو دبلوماسية متعددة الأقطاب، تقودها تركيا من موقع الوسيط واللاعب في آنٍ معًا.
هكذا تحوّل المنتدى من مجرّد مؤتمر إلى إعلان غير مباشر عن استعداد أنقرة لقيادة مرحلة جديدة في العلاقات الدولية، مرحلة لا تُدار فقط من نيويورك وبروكسل وموسكو، بل من عواصم تتقن فن الحركة بين المحاور، وتُجيد تقديم نفسها كضرورة أكثر منها خيار.