يصادف اليوم الذكرى الـ61 لتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، التي مثّلت على مدار أكثر من ستة عقود حجر الزاوية في المشروع الوطني الفلسطيني، والجسم الشرعي الوحيد المعترف به عربياً ودولياً كممثل لشعب فلسطين في كافة أماكن تواجده. وقد جاء تأسيس المنظمة في ظل لحظة تاريخية حرجة، نتيجة لفقدان الأرض والتشريد الجماعي الذي حلّ بالفلسطينيين عقب نكبة 1948، كاستجابة مباشرة لمطلب ملحّ بوجود كيان سياسي يوحد الشتات الفلسطيني ويقوده نحو التحرير.
انطلقت منظمة التحرير الفلسطينية رسميًا بعد انعقاد المؤتمر العربي الفلسطيني الأول في القدس عام 1964، وذلك بتكليف من مؤتمر القمة العربية في القاهرة، حيث شُكّلت لجنة تحضيرية برئاسة أحمد الشقيري، الذي قام بجولات في الدول العربية، لتأسيس قاعدة شعبية وفكرية تقود إلى صياغة الميثاق القومي الفلسطيني والنظام الأساسي للمنظمة. وتمخضت هذه الجهود عن انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني الأول، وإعلان قيام المنظمة وانتخاب الشقيري أول رئيس للجنتها التنفيذية، في لحظة سياسية كان فيها الوجود الفلسطيني يعاني من التهميش على المستويين الإقليمي والدولي.
المنظمة والنضال الوطني: من الوحدة إلى العمل المسلح
منذ تأسيسها، لعبت منظمة التحرير دورًا مركزيًا في تجميع القوى الوطنية الفلسطينية تحت رايتها، وبخاصة بعد انضمام الفصائل الفدائية، وعلى رأسها حركة “فتح”، والتي أدت لاحقًا إلى تولي ياسر عرفات رئاسة اللجنة التنفيذية عام 1969، وهو ما شكل تحولًا استراتيجيًا في مسار المنظمة. أصبحت الكفاح المسلح، ثم النضال الشعبي والدبلوماسي، أدوات أساسية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، خاصة مع تصاعد العمليات الفدائية من خارج الأراضي المحتلة، ما أعاد القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمام الدولي.
المنظمة، التي أنشأت الصندوق القومي الفلسطيني كمؤسسة تمويلية للأنشطة الوطنية، لم تقتصر على الجانب العسكري فقط، بل أولت اهتمامًا بالغًا ببناء مؤسسات سياسية وثقافية واجتماعية فلسطينية في المنافي، لتعزيز الهوية الوطنية، وإعداد الأرضية للدولة الفلسطينية المستقبلية.
الاعتراف الدولي والنضال الدبلوماسي
واحدة من أبرز إنجازات منظمة التحرير، كان حصولها على الاعتراف الدولي الواسع باعتبارها “الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني”، بدءًا من القمة العربية في الرباط 1974، إلى اعتراف الجمعية العامة للأمم المتحدة بها كمراقب، ومنحها حق التحدث باسم فلسطين. وقد مثّل خطاب ياسر عرفات التاريخي في الأمم المتحدة عام 1974 قفزة نوعية في الحضور الفلسطيني الدبلوماسي.
منذ تلك اللحظة، أصبحت الدبلوماسية الفلسطينية أداة رئيسية في نضال المنظمة، وخاصة في ظل تعثر الكفاح المسلح وتحولات المشهد الإقليمي والدولي. لعبت المنظمة دورًا مهمًا في إيصال معاناة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال إلى المحافل الدولية، وتوثيق الاعتداءات الإسرائيلية أمام المنظمات الأممية، ومجالس حقوق الإنسان، ومحكمة الجنايات الدولية، خاصة في العقود الأخيرة، حيث أصبح العمل القانوني والدبلوماسي ساحة مواجهة موازية.
من أوسلو إلى الدولة المراقبة
وقّعت منظمة التحرير اتفاقيات أوسلو عام 1993، والتي أثارت جدلاً كبيرًا داخل الصف الوطني الفلسطيني، لكنها مثّلت أيضًا اعترافًا إسرائيليًا وعالميًا رسميًا بالمنظمة وبالحقوق الفلسطينية، حتى وإن كانت منقوصة. منذ ذلك الوقت، باتت المنظمة تشكّل إطارًا سياسيًا أعلى للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وفي عام 2012، وبفضل الجهود الدبلوماسية المستمرة، نجحت منظمة التحرير في رفع مكانة فلسطين في الأمم المتحدة إلى “دولة غير عضو بصفة مراقب”، ما فتح الباب أمام الفلسطينيين للانضمام إلى المعاهدات الدولية وملاحقة الاحتلال قانونيًا على جرائمه، خصوصًا المتعلقة بالاستيطان، تهجير السكان، والاعتداءات العسكرية على قطاع غزة.
المنظمة في الحاضر: تجديد وتحديات
في السنوات الأخيرة، استمرت منظمة التحرير في لعب دور سياسي محوري رغم الانقسام الفلسطيني الداخلي، مع استمرار الاعتراف بها كمظلّة شرعية ووطنية. وشهدت مؤخرًا خطوات تنظيمية مهمة، من ضمنها استحداث منصب نائب رئيس اللجنة التنفيذية، وتعيين حسين الشيخ لهذا المنصب، إضافة إلى انتخاب عزام الأحمد أمينًا للسر، في إطار محاولة لإعادة تفعيل مؤسسات المنظمة وتجديد دمائها لمواكبة التحديات المعاصرة، لا سيما في ظل التصعيد المتكرر من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي على القدس والضفة الغربية وقطاع غزة.
على مدار 61 عامًا، كانت منظمة التحرير الفلسطينية أكثر من مجرد إطار سياسي؛ كانت وما زالت حاضنة للنضال الفلسطيني، صوتًا للمقهورين في العالم، وجدارًا دبلوماسيًا يواجه التغوّل الإسرائيلي. وإن كان الطريق نحو الدولة المستقلة لا يزال مليئًا بالعقبات، إلا أن وجود منظمة التحرير، بهويتها الجامعة، يظل عنصرًا ضروريًا لبقاء القضية الفلسطينية حيّة في الوجدان العربي والدولي.