تؤكد التصريحات الأخيرة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه إسرائيل كاتس، بجلاء توجهًا متعمّدًا نحو تقويض الجهود المدنية في قطاع غزة لتأمين المساعدات الإنسانية، لا سيما تلك التي تقودها العشائر المحلية بالتعاون مع منظمات إغاثية. ففي وقت يواجه فيه سكان القطاع خطر المجاعة الحقيقية، ويصارعون للبقاء وسط الدمار ونقص الغذاء، تختار القيادة الإسرائيلية التركيز لا على ضمان تدفق المساعدات، بل على منع وصولها بحجة “منع سيطرة حماس”، وهي ذريعة تتكرّر باستمرار لتبرير سياسات العقاب الجماعي.
استيلاء حماس على شحنات الإغاثة
تكليف الجيش الإسرائيلي بإعداد خطة خلال 48 ساعة لمنع ما وصف بـ”استيلاء حماس على شحنات الإغاثة”، يندرج في إطار سردية أمنية تخدم الأهداف العسكرية والسياسية لحكومة نتنياهو، لكنه في الجوهر يستهدف قدرة المدنيين الفلسطينيين على التنظيم الذاتي لمواجهة الانهيار الإنساني. فالتجربة الميدانية أظهرت.
كما تؤكد تقارير ميدانية وشهادات محلية، أن العشائر في شمال قطاع غزة نجحت خلال الأسابيع الأخيرة في تأمين قوافل المساعدات ومنع نهبها، في ظل فراغ أمني وأوضاع معيشية منهارة. وقد تم ذلك عبر ترتيبات محلية مع منظمات إغاثية دولية، من بينها برنامج الأغذية العالمي، الذي أكد بدوره أن كميات الغذاء التي تدخل إلى غزة ما تزال أقل بكثير من الحاجة الفعلية.
سلاح التجويع
المفارقة أن إسرائيل، التي لطالما اتهمت أطرافًا فلسطينية بالهيمنة على المساعدات، باتت الآن تستهدف حتى المبادرات المدنية والمجتمعية التي تسعى لتوزيع المساعدات بشكل عادل ومنظم، وهو ما يشير إلى أن الهدف الفعلي لا يتمثل في ضمان حيادية المساعدات، بل في فرض مزيد من الضغط على السكان عبر سلاح التجويع. إن رفض إسرائيل لتلك الجهود يضعها في موضع من يتعمد تعطيل أي قنوات بديلة للتوزيع، حتى حين تكون مستقلة عن الفصائل السياسية.
التصريحات الإسرائيلية تأتي كذلك في وقت تتسارع فيه التحذيرات الدولية من تفشي المجاعة في غزة، حيث أعلن برنامج الأغذية العالمي أن كميات الغذاء التي دخلت القطاع منذ 19 مايو لم تكفِ حتى ليوم واحد لجميع السكان، على مدى أكثر من أربعة أسابيع. وهو ما يعزز من قناعة متزايدة في الأوساط الحقوقية والدولية بأن إسرائيل تستخدم سلاح المساعدات كأداة ضغط سياسي وعقاب جماعي، بما يخالف القوانين الدولية التي تُلزم سلطات الاحتلال بضمان وصول الإغاثة إلى المدنيين في أوقات الحرب.
الحرمان الممنهج من الحق في الحياة
تصريحات نتنياهو لا تنفصل عن هذا السياق العام من الاستهداف الممنهج للمدنيين، حيث تتحول كل مبادرة إنسانية أو مجتمعية إلى “هدف أمني” تحت ذرائع غير موثقة أو مبنية على اتهامات عامة. وهذا ما يطرح تساؤلات جدية حول نوايا الحكومة الإسرائيلية في القطاع، وهل تسعى فعلًا إلى تقويض سلطة فصائل بعينها، أم أنها تعتمد سياسة شاملة لتفكيك أي بنية دعم اجتماعي قادرة على النجاة في ظل الحرب.
في نهاية المطاف، لا يمكن قراءة خطاب نتنياهو بمعزل عن المسار العام للعدوان، الذي لم يميز منذ بدايته بين مقاتلين ومدنيين، بل اتخذ من استهداف البنى التحتية والخدمات الإنسانية سياسة متعمّدة. وإن كانت العشائر الفلسطينية تمثل اليوم إحدى آخر خطوط الدفاع الاجتماعية أمام المجاعة، فإن استهدافها لا يعني سوى شيء واحد: استمرار إسرائيل في اعتبار سكان غزة هدفًا مشروعًا، ليس فقط عبر القصف، بل أيضًا عبر الحرمان الممنهج من الحق في الحياة.