في المشهد الدموي المستمر الذي يشهده قطاع غزة، تبرز مأساة منع المدنيين من الوصول إلى المساعدات الإنسانية كوجه آخر من أوجه الكارثة المتعددة الأبعاد. هذا المنع لا يعبّر فقط عن أزمة إنسانية متفاقمة، بل يكشف أيضاً عن تحوّل استراتيجي خطير في قواعد الاشتباك، حيث أصبحت لقمة العيش هدفاً مباشراً للقصف والرصاص. فحين تعلن الأمم المتحدة أن عرقلة وصول الغذاء قد تُشكّل “جريمة حرب”، فهي لا تستخدم هذه العبارة عبثاً أو بروتوكولياً، بل تصف واقعاً بات معرّفاً بوضوح بالقانون الدولي، وتتحدث بلغة المسؤولية الدولية لا المجاملة الدبلوماسية.
استخدام الجوع كسلاح
ما يحدث في غزة من منع متكرر لوصول المساعدات، سواء عبر عرقلة مرور الشاحنات أو استهداف المدنيين عند نقاط التوزيع، يحمل دلالات عميقة على المستويين الإنساني والسياسي. أولاً، هو تأكيد على استخدام الجوع كسلاح، حيث تُمارَس ضغوط قصوى على السكان المحاصرين في محاولة لكسر إرادتهم عبر استهداف احتياجاتهم الأساسية. هذه ليست فقط سياسة عقاب جماعي، بل أيضاً تجاوز صريح لمبادئ القانون الدولي الإنساني، الذي ينص على حماية المدنيين وتسهيل وصول الإغاثة إليهم في أوقات الحرب.
الجيش الإسرائيلي، حين يقر بأنه أطلق النار قرب نقطة توزيع مساعدات، لا يُقدم توضيحاً بقدر ما يعترف بمسؤولية مباشرة عن المجازر التي تقع بشكل شبه يومي عند تلك النقاط. الصورة التي ترسمها هذه الاعترافات أصبحت صادمة للرأي العام العالمي: مدنيون جائعون، يقفون في طوابير لساعات طويلة، ليُقتلوا في النهاية برصاص يُفترض أن يكون موجهاً لـ”أهداف عسكرية”. هذه الصورة أصبحت أيقونة لأزمة تفوق حتى مأساة الحرب ذاتها، لأنها تُظهر كيف يُقتل الإنسان لا فقط في بيته أو شارعه، بل حتى وهو يبحث عن رغيف الخبز.
جريمة حرب
أما تأثير هذه التقارير الأممية دولياً، فهو متباين لكنه متزايد التأثير. في الوقت الذي تواصل فيه بعض الحكومات الغربية دعم إسرائيل سياسياً وعسكرياً، بدأت التقارير الحقوقية الموثقة تُحدث شروخاً في هذا الدعم. التقارير الصادرة عن مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، التي تصف الأوضاع في غزة بلغات غير تقليدية (مثل: “جريمة حرب”، و”هجمات غير مقبولة على مدنيين”)، تُغذّي تدريجياً حراكاً دولياً نحو الضغط لإنهاء الحرب أو على الأقل وقف العمليات في الجنوب، وتحديداً رفح.
المجتمع الدولي، وإن كان بطيئاً في تحركه، لا يستطيع تجاهل هذه التقارير إلى الأبد. فهي تُستخدم كوثائق أساسية في المحاكم الدولية، وتُعد رصيداً قانونياً يُمكن الاستناد إليه مستقبلاً في أي تحقيق أو محاكمة. كما أنها تُعيد تشكيل الرأي العام، خصوصاً في أوروبا وأمريكا الشمالية، حيث تزداد حركات المقاطعة والاحتجاجات على الجامعات والشوارع، مدفوعة بصور الأطفال والنساء الذين يُقتلون وهم يمدون أيديهم لأكياس الدقيق والماء.
سياسة ممنهجة تعمّق المأساة
منع وصول المساعدات في غزة ليس مجرد “حادث عرضي” أو “خطأ عسكري”، بل هو جزء من سياسة ممنهجة تعمّق المأساة وتدفع باتجاه تفكيك آخر مظاهر الحياة المدنية. ومع كل تقرير جديد من الأمم المتحدة، يتقلّص هامش الإنكار الدولي وتتسع دوائر المساءلة. العالم بدأ يسمع.. لكن السؤال الأكبر يبقى: متى سيتحرك فعلاً؟