تتابع الصحافة الإسرائيلية باهتمام متزايد ما تصفه بـ”التحولات الكبرى” الجارية في القارة الإفريقية، لا سيما في مجالات التحديث المؤسسي والتحول الرقمي وإنشاء مراكز الابتكار. غير أن هذا الاهتمام لا يقتصر على المتابعة، بل يعكس نزوعًا واضحًا من قبل تل أبيب لتحويل هذه الديناميات الإفريقية إلى أدوات للتمدد السياسي والاقتصادي، في محاولة لبناء نفوذ استراتيجي طويل الأمد في قلب القارة.
استثمار في التكنولوجيا… وتوظيف سياسي
تسعى إسرائيل لتقديم نفسها كشريك “حداثي” في إفريقيا، من خلال ترويج مشاريع تكنولوجية في قطاعات الزراعة والطاقة والمياه. وتولي اهتمامًا خاصًا بدول مثل كينيا وتنزانيا، التي أبدت استعدادًا للانفتاح على هذا النوع من التعاون. لكن ما تقدمه إسرائيل كدعم تنموي، قد يُستخدم في واقع الأمر كمدخل لاختراق أعمق للمجتمعات الإفريقية، بأبعاد دبلوماسية وأمنية وأيديولوجية.
مالي بعد “فاغنر”: فراغ تسعى تل أبيب لملئه
قبيل اندلاع الحرب مع إيران، رصد الإعلام العبري باهتمام انسحاب قوات “فاغنر” الروسية من مالي، واعتبر ذلك فرصة لإعادة تشكيل خارطة النفوذ في الساحل الإفريقي. ومع طرح اسم “فيلق إفريقيا” كبديل أمني جديد، برزت مخاوف إسرائيلية من دخول قوى منافسة مثل الصين أو إيران. لكن اللافت أن هذه التطورات تفتح الباب أيضًا أمام إسرائيل نفسها للتوسع، من بوابة الأمن والتكنولوجيا والاتصالات، بذريعة محاربة الإرهاب أو دعم الحكومات المحلية.
زيارة زامبيا: توظيف الدين في خدمة السياسة
الزيارة الأخيرة لوزير خارجية زامبيا إلى الأراضي المحتلة حملت أبعادًا تتجاوز الدبلوماسية التقليدية. فبينما تمت تغطية الجولة في شمال الضفة الغربية المحتلة على أنها ذات طابع ديني، فهمها الإعلام العبري كنوع من الاعتراف الضمني بشرعية الاستيطان، بل واحتفى بها كمؤشر على تضامن إفريقي محتمل مع الرواية الإسرائيلية. ورافق الزيارة تعهدات بفتح “خزائن البركة” – تعبير عبري يشير إلى ضخ الأموال والاستثمارات – في محاولة لربط المواقف السياسية بالمنافع الاقتصادية.
مشروع تنمية أم تطبيع ناعم؟
في مقالة نشرتها الكاتبة حاجيت فرويد في “جيروزاليم بوست”، دعت الحكومة الإسرائيلية إلى توسيع وجودها في إفريقيا ومضاعفة التبادل التجاري، خاصة مع الدول التي تشهد نموًا ديموغرافيًا سريعًا مثل كينيا. وبينما استعرضت الكاتبة قدرة إسرائيل على لعب دور “تنموي” في القارة، دعت إلى تحويل المشاريع التجريبية إلى شراكات دائمة. إلا أن هذا الخطاب يثير تساؤلات عن نوايا تل أبيب: هل الهدف حقًا هو التنمية؟ أم استخدام التكنولوجيا كوسيلة لتكريس النفوذ السياسي والتطبيع الثقافي والعقائدي؟
سباق على إفريقيا: إسرائيل في مواجهة قوى كبرى
التحذيرات داخل الصحافة الإسرائيلية لا تخفي القلق من تزايد نفوذ قوى أخرى مثل الصين وروسيا وتركيا ودول الخليج، التي تنفذ مشاريع عملاقة في مجالات البنية التحتية والتعليم والتمويل. هذا القلق يُترجم في شكل سباق محموم على بناء مواقع نفوذ في إفريقيا، حيث تسعى كل دولة لحجز موقع في خارطة المصالح الناشئة.
وفي هذا السياق، تقدّم إسرائيل نماذج مثل مركز DeserTech في صحراء النقب كمصدر لتطوير حلول بيئية وتكنولوجية ملائمة لأفريقيا. لكن هذه النماذج – وإن بدت تنموية – قد تستخدم كأدوات لفرض نفوذ ناعم، يتجاوز الاقتصاد ليطال الثقافة والتعليم والعقيدة.
إفريقيا ليست فراغًا استراتيجيا
الخلاصة أن ما يُعرض في الإعلام الإسرائيلي كفرص تنمية وتعاون، ينبغي النظر إليه بحذر في العالم العربي والإفريقي. فإسرائيل تدرك أن إفريقيا لم تعد “هامشًا دبلوماسيًا”، بل ساحة تنافس جيوسياسي من الطراز الأول. ومن هنا، فإن محاولات توسيع النفوذ تحت غطاء الابتكار، لا تنفصل عن أجندة تطبيعية عميقة، تسعى لتحويل العلاقات الإفريقية – الإسرائيلية من مصالح تجارية إلى اصطفاف سياسي وثقافي.
ويبقى التحدي الحقيقي أمام النخب الإفريقية والعربية هو: كيف نواجه هذا التغلغل الإسرائيلي؟ وهل نملك مشروعًا تنمويًا بديلاً يضع احتياجات القارة في المقدمة دون استغلال سياسي؟