تمثل جريمة اغتيال ستة أسرى فلسطينيين محررين – بينهم خمسة من مبعدي صفقة وفاء الأحرار – فصلاً جديداً من فصول التصعيد الإسرائيلي الذي يتسم بطابع ممنهج واستهداف مباشر لكل من له صلة بتاريخ المقاومة أو مرّ بتجربة الاعتقال. فبعيداً عن مجرد كون الحادثة عملاً عسكرياً ضمن الحرب المستمرة على قطاع غزة، تفتح هذه الجريمة الباب لتحليل أعمق حول الدلالات السياسية والأمنية والرمزية لمثل هذا الاستهداف.
سياسة تصفية متعمدة
أول ما يلفت في هذه الواقعة أن الضحايا ينتمون جميعاً إلى شريحة محددة: أسرى محررون، معظمهم من الضفة الغربية، جرى إبعادهم إلى قطاع غزة بموجب صفقة تبادل الأسرى المعروفة باسم “وفاء الأحرار” عام 2011. وهذه الفئة من الفلسطينيين تمثل بُعداً حساساً في الصراع، إذ تجمع بين رمزية الصمود في المعتقلات وارتباط مباشر بعمليات المقاومة المسلحة، كما أن وجودهم القسري في غزة كان نتيجة ترتيبات إسرائيلية سياسية – أمنية في حينه، لم تُلغِ نظرة المؤسسة الإسرائيلية إليهم بوصفهم “قنابل موقوتة مؤجلة”.
اغتيال هؤلاء الأسرى، وفقاً لبيانات إعلام الأسرى وحركة حماس، لم يكن مجرد “أضرار جانبية” في قصف عشوائي، بل جاء في سياق سياسة تصفية واضحة ومتعمدة، تستهدف تصفية الحساب مع رموز المقاومة الذين قاوموا الاحتلال داخل السجون وخارجها. إسرائيل، بحسب هذا المنظور، لا تكتفي بعقوبة السجن، بل تمتد عقوبتها إلى ما بعد التحرر، لتتحول حياة الأسير السابق إلى حالة مطاردة دائمة.
أمان الأسرى المحررين
تتجلى هنا محاولة إسرائيلية لكسر المعادلة الرمزية التي يمثلها الأسير المحرر في المخيال الفلسطيني. فهؤلاء الأشخاص غالباً ما يتحولون إلى رموز نضالية، بل إلى شخصيات اعتبارية تحظى باحترام جماهيري، وتلعب أدواراً تنظيمية أو سياسية فاعلة. وبالتالي، فإن تصفيتهم تهدف إلى تحطيم هذه الهالة وتوجيه رسالة مزدوجة: أولاً، للأسرى داخل السجون بأن طريق التحرر لا يفضي إلى الأمان، وثانياً، للمجتمع الفلسطيني بأن “التحرر” في ذاته لا يعني شيئاً ما دام الاحتلال قادراً على تصفية من يشاء وقتما يشاء.
إضافة إلى البعد الرمزي، تكشف الجريمة عن تطور في أنماط الاستهداف الإسرائيلي، حيث يجري دمج البعد الاستخباراتي (تحديد أسماء ومواقع محددة) مع أهداف سياسية – إعلامية تريد تل أبيب توجيهها في سياق الحرب النفسية. فالاغتيالات الموجهة، وخاصة حين تطال شخصيات معروفة بتجربتها الكفاحية، تُستخدم كأدوات دعائية لإظهار “تفوق استخباراتي” أو لإثارة الانقسام داخل النسيج المجتمعي الفلسطيني، بطرح تساؤلات عن أمان الأسرى المحررين في غزة، أو عن مدى قدرة الفصائل على حمايتهم.
أيضاً، لا يمكن فصل الجريمة عن البعد القانوني الدولي. فهؤلاء الأسرى أفرج عنهم ضمن اتفاق تبادل رعته أطراف إقليمية ودولية، ما يُضفي على وضعهم نوعاً من الحماية الأخلاقية – إن لم تكن القانونية – بوصفهم طرفاً في اتفاق تم احترامه حينها. وانتهاك هذه الحصانة عبر التصفية الجسدية يبعث برسائل سلبية عن عدم التزام إسرائيل بأي تسويات طويلة الأمد، وأنها قادرة على التراجع أو النقض في أي وقت، حتى تجاه اتفاقات ذات بعد إنساني.
إعادة تعبئة الرأي العام الفلسطيني
لكن، في المقابل، يبدو أن إسرائيل تقرأ التحولات في السياق الفلسطيني الداخلي بطريقة معكوسة. فبدلاً من أن تؤدي هذه الاغتيالات إلى تحييد الحاضنة الشعبية للمقاومة، فهي على الأغلب تسهم في إعادة تعبئة الرأي العام الفلسطيني حول قضية الأسرى، بوصفها إحدى القضايا الجامعة التي لا تخضع كثيراً للخلافات الفصائلية. ويظهر من ردود الأفعال أن هناك تقاطعاً وطنياً على اعتبار هذا الاستهداف “خطاً أحمر”، وأن الرد عليه قد لا يكون فقط ميدانياً، بل إعلامياً وقانونياً كذلك، في محاولة لفضح سياسة القتل خارج نطاق القانون، والتي تحولت إلى ركيزة في العقيدة العسكرية الإسرائيلية.
إن اغتيال الأسرى المحررين لا يمكن قراءته كحادث عرضي أو تكتيكي. هو فعل يحمل مضموناً استراتيجياً، ينطوي على تصور إسرائيلي للصراع يتجاوز حدود ساحة الحرب، إلى معركة الوعي والرمزية والتاريخ. وهو أيضاً مؤشر على عقلية أمنية إسرائيلية ترى في الأسير الفلسطيني المحرر خصماً مؤجلاً يجب حسم مصيره في وقت تختاره هي. ومع ذلك، فإن هذا النهج لم ينجح تاريخياً في وقف دورة المقاومة، بل كثيراً ما أعاد إنتاجها بأشكال أكثر تعقيداً وصلابة.