رغم ظل تصاعد المعاناة الإنسانية التي يعيشها الشعب الفلسطيني، خاصة في قطاع غزة تحت وطأة العدوان المستمر، وفي الضفة الغربية بما فيها القدس، تسعى الحكومة الفلسطينية لتفعيل مقاربات تنموية وإنسانية متكاملة، تتجاوز مجرد الإغاثة الطارئة، إلى بناء منظومة حماية اجتماعية مستدامة وشاملة.
ويأتي إعلان رئيس الوزراء محمد مصطفى عن المضي في تنفيذ مبادرة العدالة الاجتماعية والإدماج، في هذا السياق، كمؤشر واضح على إدراك الحكومة لأهمية الانتقال من ردود الفعل المؤقتة إلى حلول بنيوية تضمن الحد الأدنى من صمود الفئات الأضعف، لا سيما في المناطق المنكوبة والمحاصرة.
التحديات المركبة
المبادرة، التي تُعد جزءًا من البرنامج الوطني للتنمية والتطوير 2025–2026، تهدف إلى وضع أسس نظام حماية اجتماعية عصري يُعالج الفقر من جذوره، ويمنح المواطنين الفلسطينيين – ولا سيما في غزة – الأدوات والموارد التي تُمكّنهم من البقاء، لا كضحايا، بل كفاعلين قادرين على الاستمرار في الحياة رغم التحديات المركبة. ففي الوقت الذي تُقصف فيه البنية التحتية، وتُفرض القيود على حرية التنقل والعمل، تسعى الحكومة إلى خلق بيئة داخلية تستند إلى العدالة والتكافل والفرص الاقتصادية.
مكونات المبادرة الأربعة، كما عرضتها وزيرة التنمية الاجتماعية سماح حمد، تُظهر تركيبة متكاملة بين الرقمنة، والتنمية الاقتصادية، وتعزيز الشراكات، والحوكمة. وهي بذلك تستجيب للتحديات الميدانية التي فرضها الاحتلال، خاصة ما يتعلق بضعف القدرة على الوصول إلى المناطق المهمشة، وتعطل مؤسسات الدولة في القطاع، وانقطاع الرواتب والخدمات.
ريادة الأعمال والمشاريع الصغيرة
الركيزة الأولى، وهي رقمنة السجل الوطني الاجتماعي وتوسيعه، تعني عمليًا ضمان أن لا تبقى أي فئة مهمشة أو خارج منظومة الدعم، خاصة في قطاع غزة الذي يعاني من تقطيع جغرافي ومؤسسي. أما الركيزة الثانية فتتعلق بإحداث تحول نوعي في شكل الدعم الاجتماعي، من الإغاثة إلى التمكين، عبر دعم ريادة الأعمال والمشاريع الصغيرة، بما يشمل النساء والشباب وذوي الإعاقة، وهي فئات غالبًا ما تُستبعد من السياسات التقليدية.
تأتي أهمية هذه المبادرة كذلك في جانبها الثالث، أي بناء الشراكات، في وقت تبدو فيه الموارد المالية شحيحة والدعم الدولي مشتتًا. إذ تحاول الحكومة تجاوز الحصار المالي والسياسي عبر إشراك المجتمع المدني، والمنظمات الدولية، والقطاع الخاص في تقديم الخدمات، على نحو لا يخفف العبء على الدولة فقط، بل يعزز من استدامة المشروع التنموي.
التحويلات النقدية
الركيزة الرابعة، التي تتعلق بالحوكمة والشفافية، تسد الثغرات التي طالما عانى منها النظام الاجتماعي الفلسطيني، مثل ضعف آليات المحاسبة وتضارب المعايير. فبناء نظام متابعة وتقييم فعال يعزز من ثقة المواطنين بالمؤسسة الرسمية، ويُحقق العدالة في توزيع الموارد، وهو عنصر جوهري في ظل بيئة سياسية واجتماعية حساسة.
من ناحية أخرى، فإن ربط المبادرة بمبادرات حكومية موازية مثل “الطاقة المتجددة”، و”توطين الخدمات الصحية”، و”المدفوعات الرقمية”، يعكس فهماً عميقاً بأن العدالة الاجتماعية لا تُبنى فقط على التحويلات النقدية، بل على إصلاح بيئة العيش نفسها. فعلى سبيل المثال، تخفيض كلفة الطاقة للأسر الفقيرة لا يقل أهمية عن تقديم الدعم المالي المباشر، لأنه يحقق أثرًا مستدامًا طويل المدى.
الصمود المجتمعي في وجه سياسات الحصار
تبدو الجهود الحكومية كمحاولة جادة لإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن، ليس كعلاقة تلقّي، بل كشراكة في مواجهة الاحتلال والفقر معًا. ومع بلوغ عدد الأسر المستفيدة إلى نحو 325 ألفًا بحلول 2026، فإن حجم التأثير المتوقع للمبادرة يجعلها ليست فقط برنامجًا اجتماعيًا، بل أداة استراتيجية للصمود المجتمعي في وجه سياسات الحصار والتجويع.
تُمثل هذه المبادرة جزءًا من رؤية أوسع تُدرك أن مقاومة الاحتلال لا تتم فقط بالبندقية، بل أيضًا ببناء الإنسان الفلسطيني وتمكينه من العيش بكرامة، رغم أنف الحصار والجدران.