أعلنت موسكو رسمياً اعترافها بحكومة “الإمارة الإسلامية” التي تقودها حركة طالبان في أفغانستان، لتكون بذلك أول دولة تُضفي شرعية دبلوماسية كاملة على السلطة القائمة في كابول منذ انسحاب القوات الأميركية عام 2021. وبينما رحّبت طالبان بهذا القرار واعتبرته “شجاعاً”، فإن ما وراء الاعتراف يكشف عن حسابات جيوسياسية أوسع بكثير من حدود أفغانستان.
الممثل الخاص للرئيس الروسي في الشأن الأفغاني، زامير كابولوف، لم يترك مجالاً للتأويل عندما قال لوكالة “ريا نوفوستي”: “تم الاعتراف”، في تأكيد رسمي تبعته وزارة الخارجية الروسية من خلال وكالة “تاس”. أما في كابول، فقد سارع وزير الخارجية في حكومة طالبان، أمير خان متقي، إلى وصف الخطوة بأنها “نقطة تحوّل”، مشيداً بموسكو التي “تتقدم على الجميع”، كما قال خلال لقائه السفير الروسي.
لكن الاعتراف الروسي لا يمكن عزله عن سياق دولي أوسع، إذ يبدو أقرب إلى مناورة استراتيجية تتقاطع فيها اعتبارات الأمن الإقليمي مع الرغبة في سدّ الفراغ الذي خلّفه الغرب في آسيا الوسطى. فمنذ انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، باتت موسكو تتعامل مع طالبان كأمر واقع، وسعت بهدوء إلى بناء قنوات اتصال معها، عبر لقاءات أمنية وتعاون في قضايا مكافحة الإرهاب وتهريب المخدرات. غير أن منحها الشرعية الآن يحمل دلالات تفوق الطابع الثنائي.
أولاً، يأتي الاعتراف في وقت تتجه فيه الأنظار إلى إعادة تشكيل النفوذ في آسيا الوسطى، خاصة في ظل القلق الروسي المتزايد من تمدد الحضور الأميركي عبر البوابة الأمنية لدول المنطقة. وبإضفاء الشرعية على طالبان، تُرسل موسكو رسالة واضحة مفادها أنها ما تزال لاعباً محورياً في المعادلة الأفغانية، وأنها قادرة على إعادة رسم خطوط النفوذ دون المرور بالغرب.
ثانياً، تضع روسيا نفسها كقناة سياسية ودبلوماسية بديلة لدول المنطقة التي تجد نفسها مضطرة للتعامل مع طالبان في ملفات الهجرة والتطرف والحدود، لكنها تفتقر إلى غطاء دولي لفعل ذلك. ومن خلال اعترافها، تطرح موسكو نموذجاً جديداً لتطبيع العلاقات مع كابول، قد يشجّع دولاً أخرى، لا سيما الجوار القريب مثل إيران وتركمانستان وأوزبكستان، على اتخاذ خطوات مماثلة.
ثالثاً، تعكس الخطوة الروسية محاولة لاستخدام ورقة أفغانستان في مفاوضاتها المعقدة مع الغرب، سواء في سياق الحرب في أوكرانيا أو التوازنات الكبرى في الشرق الأوسط. فموسكو التي تخوض مواجهة مفتوحة مع واشنطن في أكثر من ساحة، تدرك أن كسب طالبان إلى صفّها، أو على الأقل إخراجها من دائرة النفوذ الأميركي، يمنحها نقطة إضافية في لعبة الشطرنج الجيوسياسي.
ولا تخلو الخطوة أيضاً من إشارات موجهة إلى بكين، الحليف الأقرب لموسكو في الوقت الراهن. فالصين بدورها لم تعترف رسمياً بطالبان لكنها أبقت على علاقات وثيقة معها. ويُنظر إلى الاعتراف الروسي كجسّ نبض قد تمهّد له الصين طريقاً مماثلاً، خاصة إذا ما أثبتت كابول قدرتها على إدارة الأمن ومنع تنقل الجماعات المسلحة إلى الأراضي الصينية عبر إقليم شينجيانغ الحساس.
في المقابل، لا تزال العواصم الغربية ترفض الاعتراف بطالبان بسبب سجلها الحقوقي، لا سيما في ما يتعلق بحقوق النساء والحريات المدنية. ويأتي التحرك الروسي ليعكس استغلال هذا التردد الغربي لبناء تحالفات مع أنظمة تعاني من عزلة سياسية، لكنها حاسمة في ضبط توازنات إقليمية.
الاعتراف الروسي بطالبان لا يعني نهاية العزلة الدولية التي تعاني منها الحركة، لكنه بالتأكيد يشكل بداية مرحلة جديدة في موقعها على الخارطة السياسية العالمية، ويعيد رسم خطوط التماس بين القوى الكبرى في واحدة من أكثر المناطق اضطراباً في العالم.