في قلب فلسطين، حيث تتنفس المدن همومًا متشابهة وأحلامًا متقاربة، تبرز نابلس كحالة فريدة في التعامل مع قضية الأمن والاستقرار. الاجتماع الأخير الذي جمع وجهاء المدينة وسكانها مع ممثلي الأجهزة الأمنية الفلسطينية لم يكن مجرد لقاء روتينيا، بل كان بمثابة نقطة تحول فارقة وبوصلة جديدة تشير إلى مسار واعد نحو استقرار طال انتظاره. إنه تعبير صادق عن إرادة جماعية لتحقيق الأمن والسلامة لأهالي المدينة، وتأكيد على أن المسؤولية الأمنية هي مسؤولية مشتركة لا تقع على عاتق طرف واحد.
لقد شهدت نابلس في الآونة الأخيرة، شأنها شأن الكثير من المدن الفلسطينية، تصاعدا في بعض الظواهر السلبية التي تؤثر على النسيج المجتمعي وتهدد السلم الأهلي. هذه الظواهر، وإن كانت محدودة في نطاقها، إلا أنها تستدعي وقفة جادة وتضافرا للجهود من أجل استئصالها. هنا يأتي دور هذا الاجتماع، ليعيد ترتيب الأولويات ويعزز الثقة بين المواطن والأجهزة الأمنية، وهو ما يعد حجر الزاوية في بناء أي مجتمع آمن ومستقر.
لطالما كانت نابلس، بتركيبتها الاجتماعية المعقدة وتاريخها النضالي الثري، حاضنة لتجارب مجتمعية فريدة. لكن اللافت هذه المرة هو الخروج من دائرة الخطاب التقليدي حول “تعزيز الأمن” إلى تبني رؤية عملية تقوم على تكثيف الدوريات الأمنية وتوسيع انتشارها في كل الأحياء، بما فيها تلك التي اعتادت على شبه غياب للدولة. هذا القرار لم يأت من فراغ، بل هو نتاج وعي متبادل بأن الأمن لا يُفرض من فوق، بل يُبنى من خلال ثقة متجددة بين المواطن وأجهزة الدولة.
التعهدات التي صدرت عن هذا الاجتماع، والتي تمحورت حول تعزيز إنفاذ القانون وتكثيف الدوريات الأمنية في كافة الأحياء، ليست مجرد كلمات تقال، بل هي خطوة عملية وملموسة نحو تحقيق الأمن الميداني الذي يلامس حياة المواطن اليومية. فوجود الأجهزة الأمنية المكثف، وحضورها الفاعل في الشوارع والأزقة، يرسل رسالة واضحة بأن القانون سيد وأن لا أحد فوق المحاسبة. وهذا يساهم بشكل كبير في ردع كل من يفكر في الإخلال بالأمن أو بث الفوضى.
رغم الإيجابية الظاهرة في هذا التوجه، إلا أن الطريق أمام تعزيز الأمن في نابلس ليس مفروشًا بالورود. فالمدينة، كغيرها من المدن الفلسطينية، تعاني من إرث ثقافي يجعل بعض المواطنين ينظرون إلى التدخل الأمني بشيء من الريبة، خاصة في المناطق التي طالما اعتمدت على العرف العشائري في فض النزاعات. هنا، يصبح التحدي الأكبر هو كسر حاجز الخوف من “تسليم ملف الأمن بالكامل للدولة”، وهو ما يتطلب جهدًا توعويا موازيا يشرح دور الأجهزة الأمنية كخدمة عامة وليس كسلطة قمعية.
إن أهمية هذا التفاهم لا تكمن فقط في الجانب الأمني المباشر، بل تتعداه إلى تعزيز الشراكة المجتمعية. فمشاركة وجهاء المدينة وممثلين عن سكانها في هذا الاجتماع، تعطي بعدا شعبيا للأمن وتجعله جزءا لا يتجزأ من المسؤولية الجماعية. عندما يدرك المواطن أن الأجهزة الأمنية تعمل من أجله وبالتنسيق معه، فإن ذلك يشجع على التعاون وتقديم المعلومات التي تساهم في كشف الجرائم ومنعها. فالمعلومة التي يقدمها المواطن هي العين الساهرة التي لا تنام، وهي اللبنة الأساسية في بناء جدار الأمن المنيع.
ما يعطي مصداقية لهذه المبادرة هو أنها لم تأت كرد فعل على أزمة أمنية طارئة، بل كجزء من مسار طويل بدأ منذ سنوات بخطوات متقطعة لتعزيز الشراكة بين المجتمع والأمن. ففي بعض أحياء نابلس، نجحت الحملات الأمنية المشتركة بين الشباب والمؤسسات الرسمية في خفض معدلات الجريمة بنسب ملحوظة، مما أثبت أن التعاون ممكن إذا جُسد بآليات واضحة.
لكن النجاح في تحقيق هذه الأهداف لا يعتمد فقط على التعهدات الرسمية، بل يستوجب عملا دؤوبا ومتابعة حثيثة على الأرض. يجب أن تتحول هذه التعهدات إلى خطط عمل واضحة، تحدد المهام والمسؤوليات والجداول الزمنية. كما يتطلب الأمر استمرارية في التواصل بين الأجهزة الأمنية والمواطنين، لضمان استجابة سريعة وفعالة لأي طوارئ أو شكاوى. الثقة تبنى بالعمل الجاد والشفافية والمصداقية، وهذا ما يجب أن يكون النهج الدائم.
الأهم من ذلك، أن الاجتماع ركز على فكرة “الأمن الشامل” التي تتجاوز مفهوم الملاحقة الأمنية إلى مفهوم الوقاية عبر التعليم، والتشغيل، وإشراك الشباب في برامج مجتمعية. فالجريمة، في كثير من الأحيان، ليست مجرد خروج عن القانون، بل نتيجة لغياب العدالة الاجتماعية، وانتشار البطالة، وتآكل الطبقة الوسطى.
على الأجهزة الأمنية الفلسطينية أن تدرك أن مهمتها لا تقتصر على إنفاذ القانون بالقوة، بل تتعداها إلى توفير بيئة آمنة ومستقرة تمكن المواطن من العيش بكرامة وحرية. وهذا يتطلب تطوير آليات عمل جديدة، وتدريب الكوادر الأمنية على التعامل الاحترافي مع المواطنين، وتعزيز مفهوم الشرطة المجتمعية التي تكون جزءا لا يتجزأ من النسيج المجتمعي.
إن ما حدث في نابلس هو نموذج يحتذى به لمدن فلسطينية أخرى، ويرسل رسالة مفادها أن الأمن والاستقرار لا يمكن أن يتحققا إلا بتعاون جميع الأطراف. إنها دعوة لجميع المؤسسات الرسمية والمجتمعية، ولجميع الأفراد، للمشاركة في بناء مستقبل آمن ومستقر لنابلس وفلسطين بأسرها. فالأمن ليس خيارا، بل هو ضرورة حتمية لبقاء أي مجتمع وتقدمه.