في مشهد سياسي وقضائي معقد، يقف بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، أمام اختبار هو الأخطر في مسيرته السياسية، حيث تتصاعد فصول محاكمته بتهم الفساد، وتتجه الأنظار نحو مرحلة الاستجواب المضاد التي قد ترسم ملامح مستقبله، بل ومصير التيار السياسي الذي يقوده. لكن هذه المحاكمة، بما تحمله من تفاصيل قانونية، ليست مجرد قضية جنائية، بل تمثل مرآةً تعكس عمق التصدعات في بنية المجتمع الإسرائيلي، الذي يجد نفسه عالقاً بين خطاب ديموقراطي يدّعي الشفافية، وواقع سياسي يهيمن عليه الفساد والتلاعب بالمؤسسات.
علاقات فاسدة
نتنياهو متهم في ثلاث قضايا رئيسية، تُعرف بالملفات “1000” و”2000″ و”4000″، وتشمل تهمًا تتراوح بين الرشوة وخيانة الأمانة والاحتيال. ما يجعل هذه القضايا خطيرة ليس فقط حجم التهم، بل الطريقة التي تم فيها استغلال منصب رئاسة الحكومة لتعزيز مصالح شخصية وسياسية، من خلال علاقات فاسدة مع أصحاب مصالح اقتصادية وإعلامية، بهدف الحصول على تغطية إعلامية إيجابية أو هدايا فاخرة بمئات آلاف الشواكل.
ومع أن هذه التهم قد تُسقط أي زعيم سياسي في دولة تحترم مؤسساتها، فإن نتنياهو لا يزال على رأس السلطة، يدير الحرب في غزة، ويتخذ قرارات مصيرية بينما يحاكم أمام القضاء. هذا التناقض الصارخ يكشف عن خلل جذري في منظومة الحكم الإسرائيلية، حيث يُمكن لزعيم متهم بالفساد أن يراوغ القضاء، ويُطيل أمد المحاكمة لسنوات، مستخدمًا أدواته الحكومية لتحويل قضيته إلى ورقة مساومة سياسية، بل وحتى أمنية.
الاستجواب المضاد
وقد وصلت المراوغة ذروتها عندما حاول نتنياهو التذرع بأسباب أمنية لتأجيل شهادته، بادعاء وجود تهديدات من حزب الله ضد المحكمة، وهو أمر لم يُقنع القضاة، لكنه يُبرز محاولته دمج وضعه القانوني بالمشهد الأمني والسياسي العام، وكأنه يقول: “سقوطي هو سقوط الدولة”. هذه الرسالة تُخيف جزءًا من المجتمع الإسرائيلي، وتُقسّمه ما بين أنصار يرون فيه زعيمًا تاريخيًا، ومعارضين يعتبرونه خطرًا على الديمقراطية.
المرحلة القادمة من المحاكمة، وهي “الاستجواب المضاد”، قد تكون الحاسمة. هذا الجزء من المسار القضائي مصمم لكشف التناقضات والثغرات في الشهادة، وغالبًا ما يُسقط المتهمين الأقوياء، حتى أولئك المعروفين بدهائهم. ووفق توقعات النيابة، فإن الاستجواب قد يمتد حتى منتصف 2026، مما يعني سنوات أخرى من الشلل السياسي، والانقسام المجتمعي، وحماية رجل واحد على حساب منظومة العدالة.
هل يُحاسَب نتنياهو؟
الإجابة معقدة. من الناحية القضائية، كل الأدلة تشير إلى أن التهم جدية، وأن محامي الدفاع يعتمدون على استنزاف الزمن والمناورة السياسية أكثر من تفنيد التهم ذاتها. لكن من الناحية السياسية، لا يزال نتنياهو يحظى بقاعدة جماهيرية واسعة، وتحالف قوي داخل الكنيست، ما يُضعف فرص عزله عبر الوسائل التشريعية، ويجعل مصيره رهينًا بصفقة قد تُبرم في اللحظات الأخيرة.
الرئيس الإسرائيلي دعا مؤخرًا إلى إحياء صفقة الإقرار بالذنب، وهي صفقة مشروطة بأن يتنحى نتنياهو تمامًا عن الحياة السياسية. وإذا حدث ذلك، فستكون نهاية مدوية لرجل لطالما وصف نفسه بأنه “ملك إسرائيل”، لكنها ستكون أيضًا لحظة اختبار للديمقراطية الإسرائيلية: هل هي قادرة على محاسبة قادتها؟ أم أن نتنياهو سيكتب فصلًا جديدًا في قصة الإفلات من العقاب؟
الشارع الإسرائيلي اليوم منقسم، والقضاء في سباق مع الزمن، والسياسة تعج بالصفقات الخلفية. لكن الثابت أن نتنياهو، حتى وهو على كرسي الاتهام، لا يزال يُدير الدولة من داخل المحكمة، وهي مفارقة تعبّر بصدق عن طبيعة السلطة في إسرائيل: سلطة قد تكون ديمقراطية في الشكل، لكنها قادرة على حماية الفساد متى ما لبس عباءة القوة.