في واحد من أكثر المشاهد استفزازاً منذ احتلال القدس، ظهر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من داخل نفق محفور تحت المسجد الأقصى، في خطوة لم تكن عشوائية بل تحمل رمزية سياسية ودينية عميقة، تزامنت مع اقتحام الآلاف من المستوطنين باحات المسجد، بمشاركة وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير وعدد من المسؤولين الرسميين.
مشروع تهويد القدس
هذا الحدث لم يكن مجرد مشهد احتفالي في ذكرى احتلال القدس عام 1967، بل رسالة استراتيجية مزدوجة الأبعاد: على المستوى الرمزي، يكرّس الوجود الإسرائيلي ليس فقط فوق الأرض بل وتحتها، وعلى المستوى السياسي، يشير إلى أن حكومة نتنياهو ماضية في مشروع تهويد القدس دون اكتراث لأي رد فعل دولي أو عربي.
اقتحام بن غفير لباحات الأقصى، في وضح النهار، وتحت حماية قوات الاحتلال، لم يعد خرقاً فردياً أو تصرفاً هامشياً، بل تحول إلى ممارسة منظمة ومدعومة من مؤسسات الدولة، تعكس تحوّلاً نوعياً في سياسة فرض السيطرة المكانية والدينية على المسجد الأقصى، ضمن مسار مدروس لتفكيك الوضع القائم وتقسيم المكان زمانياً ومكانياً.
ذريعة البحث عن آثار الهيكل
ظهور نتنياهو داخل نفق أسفل الأقصى يمثل استفزازاً مباشراً لمشاعر المسلمين حول العالم، وهو ليس مجرد استعراض للكاميرا، بل إعلان صريح عن إصرار حكومته على التوغّل في مشاريع الحفريات التي تشكّل خطراً داهماً على أساسات المسجد، تحت ذريعة البحث عن “آثار الهيكل”. هذه الحفريات، التي تستمر منذ سنوات، فشلت في إثبات أي وجود أثري للهيكل المزعوم، لكنها تواصلت بدعم سياسي وأمني، في محاولة لإعادة صياغة الوعي المكاني والروائي حول المدينة المقدسة.
ما حدث هو استثمار سياسي مدروس في الرمزية الدينية، حيث تتقاطع العقيدة مع المشروع الصهيوني في أخطر مراحله. فظهور نتنياهو في النفق لم يكن فقط تذكيراً بسلطة الاحتلال على “الزمان والمكان”، بل هو توجيه دعوة مبطنة إلى العالم للاعتراف الكامل بيهودية القدس، عبر ما وصفه بأنها “عاصمة إسرائيل الأبدية”.
هذا التمادي في الانتهاك لم يكن ليبلغ هذا الحد لولا غياب الرد الفعّال عربياً وإسلامياً، والاكتفاء بردود فعل خجولة وبيانات إدانة لا تتجاوز الطابع البروتوكولي. ومقابل ذلك، تواصل الحكومة الإسرائيلية الدفع بالأمور نحو حافة الهاوية، مدفوعة بتحالف متطرف داخل الحكم، يُعيد تشكيل قواعد اللعبة في القدس، ويكسر الخطوط الحمراء التي كانت تحفظ الحد الأدنى من الوضع القائم.
المعركة على القدس
المشهد في القدس الآن هو احتلال يحتفل، وحكومة تستعرض سطوتها في عمق أحد أقدس الأماكن الإسلامية، وسط صمت دولي مطبق. لا يمكن فصل هذه التطورات عن السياق العام الذي تعيشه المنطقة، حيث تُستغل التحولات الإقليمية والانشغال العالمي بالحرب في غزة، لفرض أمر واقع تهويدي في قلب المدينة المقدسة.
دخول بن غفير وباقي الوزراء إلى الأقصى لم يعد حدثاً عارضاً بل سياسة رسمية، وظهور نتنياهو داخل النفق كان إيذاناً بأن المعركة على القدس دخلت مرحلة جديدة لا تعترف بأي توافقات تاريخية، بل تؤسس لواقع استيطاني ديني سياسي شمولي. والمسجد الأقصى، الذي لطالما كان عنواناً للصراع، يُسحب الآن ببطء من تحت أقدام تاريخه، تحت وقع الحفريات والشعارات العنصرية، ووسط عالم لا يسمع سوى صوت القوة.