في تطوّر غير مألوف على صعيد الخطاب الإسرائيلي، اختار رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مخاطبة الشعب الإيراني مباشرة، في أعقاب تنفيذ تل أبيب سلسلة ضربات واسعة ضد أهداف عسكرية ونووية داخل الأراضي الإيرانية. هذه الكلمة المصورة التي بثها نتنياهو مساء الجمعة، بعد إعلان بدء ما وصفه بـ”عملية الأسد الصاعد”، لم تكن مجرد استعراض انتصارات عسكرية مزعومة، بل جاءت محمّلة برسائل نفسية تتجاوز حدود الجبهة التقليدية.
اللافت في الخطاب أنه انطوى على دعوة صريحة للإيرانيين إلى “الانتفاض ضد النظام القمعي والشرير”، وهو توصيف لم يعد جديدًا في الخطاب الإسرائيلي، لكنه نادر في توجيهه نحو جمهور الدولة الخصم مباشرة، وفي توقيت تشهده البلاد دمارًا وخوفًا بفعل الهجمات الجوية.
عملية “الأسد الصاعد”: رواية القوة مقابل واقع التعقيد
وصف نتنياهو الضربات التي طالت أكثر من 200 موقع بأنها “إحدى أكبر العمليات العسكرية في التاريخ”، متفاخرًا بما أسماه “القضاء على كبار القادة العسكريين والعلماء النوويين”، إضافة إلى “أهم منشآت تخصيب اليورانيوم” ومخازن الصواريخ الباليستية.
غير أن مثل هذا الإعلان، وإن بدا استعراضيًا وقويًا في ظاهره، يفتح على تساؤلات جوهرية حول مدى دقته أو حقيقة فاعليته على الأرض. فطهران، رغم عدم إعلانها الكامل عن نتائج الهجوم، لم تُظهر انهيارًا في بنيتها العسكرية، كما لم ترصد حتى الآن مؤشرات تؤكد سقوط رؤوس بارزة في برنامجها النووي أو العسكري. بل إن الاحتفاظ بهدوء نسبي في الخطاب الرسمي الإيراني قد يدل على أن الحسابات الكبرى لم تُحسم بعد، وأن طهران قد تفضل الرد في وقت لاحق، وبصورة غير تقليدية.
من الصواريخ إلى الشعارات: نتنياهو يلعب بورقة الوعي الجمعي الإيراني
ما يثير الانتباه في خطاب نتنياهو هو انتقاله من اللغة العسكرية إلى خطاب شعبوي موجه للداخل الإيراني، إذ قال: “حان الوقت لكي يتوحّد الشعب الإيراني حول علَمه وإرثه التاريخي، بالانتفاض من أجل تحرركم”. هذا التوجه يعكس محاولة إسرائيلية لتفكيك الجبهة الداخلية للخصم عبر التأثير في الرأي العام، وهو جزء من استراتيجية الحروب الحديثة حيث تستخدم الرسائل الإعلامية كسلاح لا يقل أهمية عن الصواريخ.
غير أن هذا الرهان يبدو محفوفًا بالمخاطر، إذ إن الشعب الإيراني، وإن كان يعاني من القيود السياسية والاقتصادية، إلا أن تعرض بلاده لهجوم خارجي عادة ما يوحّد المواقف خلف القيادة، ولو مرحليًا. وبالتالي، فإن خطاب نتنياهو قد يحقق نتيجة عكسية بتعزيز النزعة الوطنية بدلاً من إثارة تمرد داخلي.
الردع أو الحرب المفتوحة؟ لعبة الرسائل المشفّرة
من خلال عبارته بأن “النظام لا يعرف ما لحق به أو ما سيلحق به”، بدا نتنياهو وكأنه يلوّح بردع مزدوج: عسكري ونفسي. لكنه، من حيث لا يدري، أقرّ أيضًا بأن إسرائيل تخوض معركة مفتوحة لا تملك رؤية نهائية لمآلاتها، خاصة إذا ما قررت طهران الرد بشكل مباشر أو عبر وكلائها الإقليميين.
الضربات الواسعة قد تحقق نصرًا تكتيكيًا محدودًا، لكنها تضع إسرائيل في موقع من يتحمل مسؤولية توسيع رقعة الحرب. وفي ظل الحضور الأميركي الثقيل خلف إسرائيل، فإن استمرار مثل هذه العمليات قد يحرج واشنطن دوليًا، ويعرض المنطقة لسيناريوهات فوضوية يصعب التحكم في مساراتها.
بين لغة النار وصوت الدعاية
خطاب نتنياهو، بما حمله من رسائل داخلية وخارجية، كشف أكثر مما أخفى. فالضربات الإسرائيلية – وإن وُصفت بأنها تاريخية – تبقى محكومة بحدود الجغرافيا والسياسة، وبعين حذرة تراقبها واشنطن عن كثب. وفي المقابل، فإن محاولة مخاطبة الإيرانيين بروح “التحرير” لا تحجب واقع أن إسرائيل تقود مغامرة محفوفة بالمخاطر، قد يتحول فيها النصر الإعلامي إلى ارتداد استراتيجي باهظ الثمن.