بنيامين نتنياهو، الشخصية الأكثر استمرارية في المشهد السياسي الإسرائيلي، أصبح في السنوات الأخيرة لا يمثل فقط نموذجًا للسلطة المستمرة، بل تحوّل إلى تهديد داخلي حقيقي على مستقبل إسرائيل واستقرارها. الحرب على غزة في عام 2023، التي اندلعت عقب هجوم حماس في 7 أكتوبر، لم تكن مجرد استجابة عسكرية، بل لحظة تحوّل سياسي خطير استغلها نتنياهو لتحصين نفسه من السقوط المحتوم الذي كانت مؤشراته تتراكم بوضوح قبل اندلاع الحرب.
حسابات سياسية شخصية
نتنياهو، الذي واجه احتجاجات غير مسبوقة في صيف 2023 بسبب سياساته المثيرة للجدل ضد القضاء، وقضايا الفساد التي تطارده، وجد في الحرب فرصة لإعادة فرض شرعيته عبر ما يُعرف بـ”تأثير الالتفاف حول الراية”، أي توحيد الجمهور حول القائد في لحظة أزمة. لكن هذا التكتيك الذي قد يُفهَم في لحظاته الأولى كجزء من إدارة أزمة، تحوّل سريعًا إلى مقامرة مكشوفة: إطالة أمد الحرب عمدًا، والتصعيد الميداني المتكرر، ورفض شروط وقف إطلاق نار معروفة أنها سترفضها حماس، كل ذلك بهدف وحيد—البقاء في السلطة.
هنا تكمن الخطورة. فنتنياهو لا يدير الحرب وفق اعتبارات استراتيجية عسكرية أو أمنية إسرائيلية طويلة المدى، بل يقودها وفق حسابات سياسية شخصية، ترتبط ارتباطًا مباشرًا بمصيره القانوني والوظيفي. استمرار الحرب يعني استمرار “درعه الواقي”، وتأجيل محاكمته، وربما منعه نهائيًا من مواجهة المصير القضائي، الذي قد يفضي إلى السجن. وبهذا يصبح استمرار الحرب ليس خيارًا للدولة، بل ضرورة شخصية لرئيس الوزراء.
تراجع شعبية نتنياهو
الأخطر أن هذا السلوك يقوّض مفهوم الدولة في حد ذاته. فحين يُختزل القرار العسكري الاستراتيجي في مصلحة فرد، تتحوّل إسرائيل من دولة مؤسسات إلى نظام شخصي سلطوي، يُدار بمنطق البقاء السياسي لا بالمنطق المؤسسي. وإذا كانت إسرائيل تفاخر دائمًا بتقاليدها الديمقراطية ومحاسبة القادة، فإن حالة نتنياهو تُظهر أن هذه القيم باتت على المحك.
سياسيًا، نتنياهو أصبح عنصر انقسام حاد داخل المجتمع الإسرائيلي. حتى في ذروة الحرب، عاد الشارع للاحتجاج ضده، وتراجعت شعبيته، وأظهرت الاستطلاعات أن أكثر من 70٪ من الإسرائيليين باتوا يطالبونه بالاستقالة. لكن المفارقة أن هذا الضغط لا يؤدي إلى خروجه، بل يدفعه إلى المزيد من التعنت والتصعيد، خشية أن يؤدي أي تراجع إلى انكشافه الكامل أمام القضاء والرأي العام.
هذا النموذج يُعيدنا إلى دراسات مثل تلك التي قدمها هاين غومانز، والتي تُظهر كيف أن القادة الذين يواجهون خطرًا داخليًا، يستمرون في الحروب حتى بعد أن تفقد أي معنى عسكري، لأن الخوف من العقاب الداخلي أقوى من أي دافع عقلاني لإنهاء النزاع. وهو ما ينطبق بدقة مرعبة على سلوك نتنياهو.
حرب من أجل البقاء
وبالتالي، فإن أخطر ما يواجه إسرائيل اليوم ليس فقط تحدي غزة، أو إيران، أو محور المقاومة، بل خطر وجود قيادة تتخذ قرارات وجودية بحجم الحرب والسلام، بناءً على اعتبارات شخصية محضة. وكلما طال أمد الحرب، ستصبح كلفة هذه المقامرة أكبر، لا على غزة فقط، بل على المجتمع الإسرائيلي نفسه، الذي يتفكك داخليًا تحت وطأة الانقسام، وفقدان الثقة، وانعدام الأفق السياسي.
نتنياهو، بهذا المعنى، لم يعد مجرد قائد سياسي مختلف التوجه أو الأيديولوجيا، بل أصبح يشكّل تهديدًا وجوديًا على نظام الحكم ذاته في إسرائيل. إنه رجل السلطة من أجل السلطة، يستخدم الحرب كأداة للبقاء، ولو على حساب دماء المدنيين ومستقبل الدولة.