في لحظة يُفترض أن يسود فيها منطق التهدئة والحلول، اختار بنيامين نتنياهو طريق التصعيد مجددًا، لكن هذه المرة ليس في ساحة المعركة فحسب، بل في ميدان الدبلوماسية والسياسة الدولية، حين أعلن مساء الأربعاء عزمه تمرير قانون يصنف قطر كـ”دولة عدوة”. لم تكن التصريحات زلة لسان أو انفعالًا عابرًا، بل خطوة محسوبة بدقة، لها أبعاد تتجاوز الهجوم على حماس، وتمتد إلى تفكيك أي مسار وساطة محتمل قد يعيد الهدوء إلى المنطقة.
إفشال أي مبادرة تقود إلى وقف إطلاق النار
في عمق هذه التصريحات، تتجلّى ملامح عقلية سياسية مصممة على استمرار الحرب، لا إنهائها. فالهجوم على قطر – الدولة التي تقوم مع مصر والولايات المتحدة بدور مركزي في مفاوضات التهدئة – لا يمكن فصله عن سياق أوسع، حيث يسعى نتنياهو إلى إفشال أي مبادرة تقود إلى وقف إطلاق النار، خصوصًا تلك التي تُبنى على تنازلات متبادلة أو حل وسط. في روايته، الحرب يجب أن تستمر حتى النهاية، وحتى النهاية لا تعني الرهائن، بل تعني سحق حماس، وإعادة رسم خريطة غزة وفق ما يتماشى مع مشروعه السياسي، ولو على أنقاض شعب كامل.
نتنياهو يعرف جيدًا أن قطر كانت الوسيط الوحيد الذي تمكن من تحقيق اختراقات حقيقية في ملفات معقدة مثل تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار المؤقت. يعرف أنها دولة تحتفظ بقنوات مفتوحة مع جميع الأطراف، بما في ذلك “حماس”، لكنها أيضًا حليف استراتيجي للولايات المتحدة، وتدير علاقات عقلانية مع إسرائيل نفسها. لكن في منطق الحرب، لا مكان للوسطاء، بل يصبحون عقبة في طريق التصعيد.
حرب إبادة باسم الدفاع عن النفس
اختار نتنياهو الهجوم على قطر لأنه لا يريد وساطة تُلزمه بتقديم تنازلات، ولا يريد حلًا يُخرج “حماس” من غزة سياسيًا بينما يخطط هو لإخراجها عسكريًا. أما بالنسبة لحماس، فتمسكها بشروط واضحة – منها وقف الحرب، وضمان انسحاب إسرائيلي، وتوفير ضمانات دولية – يُستخدم من قبل نتنياهو كذريعة أمام جمهوره ومؤيديه للقول: “انظروا، هم لا يريدون السلام، بل شروطًا لإعادة بناء قوتهم”.
وفي هذا السياق، تتحول جهود الوساطة إلى مسرح للصراع الإعلامي والدبلوماسي، حيث تُشيطن قطر على لسان رئيس وزراء دولة تدكّ غزة منذ شهور، وتُتهم بدعم “الهمجية” فقط لأنها لا تؤيد حربًا بلا أفق. وكأن المطلوب من الوسيط أن يتبنى خطاب الجلاد لا لغة الحل.
التصريحات القطرية جاءت ردًا صريحًا، لا يحمل فقط موقفًا دبلوماسيًا، بل صرخة من داخل الساحة السياسية العالمية تقول: “أي حضارة تُقصف فيها المستشفيات؟ أي عدالة يُمنع فيها الطعام عن الأطفال؟” في حين يكرر نتنياهو روايته حول “التحضر” الإسرائيلي، يبدو كمن يعيش في وهم أنه يستطيع أن يبرر حرب إبادة باسم الدفاع عن النفس، ويتوقع من الجميع أن يصفقوا له.
إصرار على إفشال الوساطة القطرية
لكن الدلالة الأعمق في هذا التصعيد تكمن في أن نتنياهو لا يهاجم قطر فقط لأنها وسيط، بل لأنها تُفشِل خطته بتطويع كل المسارات في خدمة بقائه السياسي. هو يواجه أزمة داخلية عاصفة، وفقدان ثقة متزايد، ومعارضة غاضبة تطالبه بصفقة تُعيد الرهائن بدل استمرار القصف. لذلك، هو لا يريد هدنة، ولا إنجازات دبلوماسية من أطراف أخرى، بل يريد حربًا مفتوحة تُنقذه من السقوط.
إن إصرار نتنياهو على إفشال الوساطة القطرية، وتهديده بتصنيفها كدولة عدوة، ليس عداءً دبلوماسيًا بقدر ما هو انعكاس لفلسفة حكم لا ترى في السلام مصلحة، بل في الحرب فرصة. وهذا ما يجعل حديثه عن “التحضر” أكثر الكلمات فراغًا في قاموس سياسي ملوّث برائحة الدم والركام.