من المؤكد، أن جيش الاحتلال الإسرائيلي تكبد خسائر كبيرة، في الحروب التي دخل فيها، على مختلف الجبهات، خاصة حرب غزة، وهو الأمر الذي دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لاتخاذ قرار بتجنيد 10,500 من المتدينين اليهود (الحريديم) في الجيش خلال عامين.
ويُعد القرار تطوراً بالغ الأهمية في تركيبة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، ويعكس أبعاداً تتجاوز الشأن الداخلي إلى الإشارة إلى تغيّر محتمل في أهداف واستمرارية الحرب على غزة.
لماذا هذا القرار الآن؟
في البداية، لا بد من الإشارة إلى أن الحريديم تاريخياً كانوا معفيين من الخدمة العسكرية في إسرائيل، بناءً على اتفاقات غير رسمية ترجع إلى قيام الدولة، بدعوى تخصيص وقتهم بالكامل للدراسة الدينية في “اليشيفوت”. هذا الاستثناء كان دائماً مثار جدل داخلي، إذ يرى كثيرون من العلمانيين الإسرائيليين أنه نوع من التهرب غير العادل من “الخدمة الوطنية”، خاصةً في ظل الحروب المتكررة.
لكن توقيت قرار نتنياهو الآن، يأتي في ظل أزمة عسكرية متفاقمة، وخسائر بشرية متزايدة في صفوف جيش الاحتلال خلال العمليات في غزة، التي طالت منذ أكتوبر حتى اليوم دون تحقيق “نصر واضح”. ومن هذا المنطلق، فإن تجنيد الحريديم يُقرأ كضرورة عسكرية لتعويض النقص في القوى البشرية القتالية، خصوصاً مع دخول الحرب شهرها الثامن، واتساع رقعة العمليات لتشمل مناطق متعددة في القطاع، وربما مستقبلاً في الشمال مع تصاعد التوتر مع حزب الله في لبنان.
هل القرار يعني نية لإطالة أمد الحرب؟
نعم، وبشكل شبه صريح. عندما تُقرّ الحكومة خطة لتجنيد هذا العدد الكبير من فئة دينية كانت ترفض الخدمة، فهذا لا يدل فقط على الحاجة الآنية، بل على استعداد استراتيجي لحرب طويلة الأمد. الجيش لا يجند آلاف الجنود لعدة أشهر فقط، بل لبناء بنية بشرية قتالية مستدامة، تشير إلى أن القيادة السياسية والعسكرية لا تتوقع نهاية قريبة للعدوان على غزة.
وبما أن هذه الخطوة تتطلب ترتيبات لوجستية، وقانونية، وحتى ثقافية (كون الحريديم لا يندمجون بسهولة في المجتمع العسكري بسبب طبيعتهم الدينية المتشددة)، فإن مجرد إعلان الخطة يعني أن نتنياهو يعيد هيكلة الجيش لخوض صراع مفتوح، يمتد لسنوات وليس شهوراً.
البعد السياسي الداخلي
قرار تجنيد الحريديم لا يخلو من مخاطرة سياسية. نتنياهو يعتمد في بقائه السياسي على دعم الأحزاب الدينية داخل الائتلاف الحاكم، وأي خطوة تهدد الامتيازات التي يحصل عليها الحريديم تُعتبر مقامرة. لكن يبدو أن نتنياهو، بعد شهور من الضغط الشعبي والعسكري، بات مستعداً لمقايضة هذا الدعم مقابل الحفاظ على استمرارية مشروعه الأمني، بل وربما للبقاء في السلطة عبر حالة “الطوارئ الدائمة” التي تفرضها الحرب.
العلاقة مع الولايات المتحدة والانعكاس على القرار
في السياق نفسه، لا يمكن فصل قرار التجنيد عن التوتر الذي بدأ يظهر في العلاقات مع الإدارة الأميركية. رغم أن نتنياهو أشار في الجلسة المغلقة إلى أنه يتحدث مع الرئيس ترمب “مرة كل أسبوعين”، فإن التسريبات من واشنطن، وتحديداً عبر شبكة “NBC”، تؤكد وجود خلافات جوهرية في الاستراتيجية، خصوصاً فيما يتعلق بكيفية إنهاء الحرب على غزة ومصير القطاع بعد الحرب. وربما يرى نتنياهو في تعزيز الجيش داخلياً وسيلة لـ”تقليل الاعتماد” على الضغط الأميركي أو حتى تجاوز الخلافات عبر فرض وقائع ميدانية.
نتنياهو لا يتجه فقط إلى إطالة أمد الحرب على غزة، بل إلى تعميقها وتحويلها إلى مشروع استنزاف طويل المدى، عبر تعزيز القوة البشرية العسكرية، حتى لو تطلّب الأمر خرق أحد المحرمات الاجتماعية والسياسية داخل إسرائيل: تجنيد الحريديم. هذا القرار يؤكد أن الرهان الإسرائيلي الآن ليس على نصر سريع، بل على معركة طويلة قد تغير طبيعة المنطقة وموقع غزة فيها. وما لم يُفرض على إسرائيل ضغط دولي حاسم، فإن سيناريو الحرب المفتوحة سيبقى هو المرجّح.