تكشف تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأخيرة عن تحولات استراتيجية عميقة في نهج إسرائيل تجاه قطاع غزة، وتُعبّر في الوقت ذاته عن مزيج من التصعيد العسكري والتصلب السياسي، بما يتجاوز مجرد “رد الفعل” على اختطاف رهائن أو إطلاق صواريخ. حين يعلن نتنياهو بوضوح أن إسرائيل “غير ملتزمة بأي وقف لإطلاق النار” وأن الإفراج عن الرهينة الإسرائيلي الأميركي عيدان ألكسندر “يأتي فقط كحصيلة للضغوط العسكرية”، فإن هذا يشير إلى عقيدة سياسية جديدة مفادها أن الحرب أصبحت أداة تفاوض قائمة بذاتها، لا وسيلة لفرض شروط مؤقتة، بل لإعادة هندسة الواقع في غزة جذرياً.
دلالات تصريحات نتنياهو
أولاً، الرفض العلني لأي التزام بوقف إطلاق النار حتى في ظل وساطات متعددة وتقدم نوعي في المفاوضات، يعكس أن إسرائيل لا تسعى حالياً إلى تهدئة حقيقية، بل تعمل على فرض معادلة “استسلام كامل أو دمار شامل”. الإشارة إلى استمرار المفاوضات “تحت النار” توضح أن تل أبيب ترى في العملية العسكرية المستمرة وسيلة ضغط لا غنى عنها لتحقيق أهداف تتجاوز إطلاق الرهائن، باتجاه تفكيك “حماس” كقوة حاكمة في القطاع.
ثانياً، هناك تصعيد ملحوظ في اللهجة والإصرار على مواصلة العمليات، رغم التقدم في ملف الرهائن، وهو ما يعزز المخاوف من أن الهدف الإسرائيلي أبعد من استعادة الأسرى. عندما يقول نتنياهو إن “اتفاقاً قد تم عرضه على حماس”، فإن ذلك لا يشير بالضرورة إلى مرونة إسرائيلية، بل إلى “عرض مشروط” أقرب إلى الإنذار النهائي: سلّموا كل الرهائن، أو واجهوا الإبادة.
ثالثاً، تزامن التصريحات مع توقعات إسرائيلية بإطلاق سراح ألكسندر خلال 24 ساعة، يضع حماس أمام اختبار صعب: هل ستقدم هذه الخطوة كـ”بادرة حسن نية” أم ستُفهم كتنازل؟ إسرائيل تحاول استغلال ذلك لإظهار أن الضغوط العسكرية تؤتي ثمارها، وبالتالي تبرير المزيد من العنف تحت مظلة “تحقيق الأهداف”.
هل تنطوي تصريحات نتنياهو على نية لإبادة غزة بالكامل؟
السؤال هنا ليس افتراضياً، بل يرتكز على مسار طويل من السياسات الميدانية الإسرائيلية. منذ بداية الحرب في أكتوبر، ارتفع مستوى القصف الإسرائيلي إلى مستويات غير مسبوقة، وارتفعت نسبة الضحايا من المدنيين بشكل صادم، كما تم استهداف بنى تحتية صحية وتعليمية، ناهيك عن النزوح القسري الذي شمل أكثر من 80% من سكان القطاع. هذا لا يُفهم فقط كضربات عسكرية، بل كمؤشرات على عملية تفريغ منهجية للقطاع من سكانه، إما عبر القتل أو عبر النزوح الدائم.
في الوقت ذاته، تصاعدت الدعوات من داخل أوساط اليمين الإسرائيلي – ومنها وزراء في الحكومة – لإعادة احتلال القطاع أو دفع سكانه نحو الهجرة إلى سيناء أو دول أخرى. قد لا تكون هذه الدعوات قد تحولت بعد إلى سياسة رسمية معلنة، لكنها تجد تعبيراً ضمنياً في واقع ميداني من الحصار، والموت، والدمار الشامل. إذا أضفنا إلى ذلك أن إسرائيل تمنع دخول الوقود والمساعدات الإنسانية بشكل منتظم، فإننا أمام ما يشبه سياسة “الخنق الكامل”، التي قد تؤدي فعلياً إلى انهيار الحياة المدنية في غزة.
هل هناك نية للاستيلاء على الأرض؟
إسرائيل لم تعلن رسمياً عن خطة لإعادة توطين يهود في غزة أو ضمها، لكن واقع الحال يشير إلى نزعة توسعية ناعمة بدأت تتسلل إلى خطاب اليمين الإسرائيلي. الحديث عن “مناطق أمنية عازلة” داخل القطاع، والرفض القاطع لعودة سلطة فلسطينية إليه، بل ورفض أي جهة فلسطينية تدير شؤون الناس بعد الحرب، يوحي بأن هناك رغبة بفرض “فراغ سيادي” طويل الأمد في غزة، تتحكم به إسرائيل أمنياً وربما ديمغرافياً، عبر منع العودة أو تشجيع الهجرة القسرية.
في هذا السياق، لا يمكن قراءة تصريحات نتنياهو على أنها مجرد رد سياسي على حماس أو على ضغوط داخلية، بل هي جزء من عقيدة أمنية توسعية تستهدف إضعاف القطاع إلى الحد الذي لا يعود فيه قابلاً للحياة ككيان فلسطيني مستقل. ومع غياب أي ضغط دولي حقيقي، فإن هذا المخطط – وإن لم يُعلن بصيغته النهائية – يُنفذ خطوة بخطوة.
تصفية غزة سياسياً
نتنياهو لا يتحدث فقط كقائد سياسي، بل كمنفذ لمخطط طويل المدى لتصفية غزة سياسياً وديمغرافياً. الإفراج عن رهينة أميركي قد يُستخدم كورقة رمزية لإظهار “النجاح العسكري”، لكن المعركة الحقيقة هي على مستقبل الأرض والناس. وما لم يتوفر رد دولي حازم، فإن ما يجري ليس فقط مجزرة، بل هندسة جيوسياسية جديدة للمنطقة، قد تُعيد فتح ملف التهجير الفلسطيني بطرق أكثر تعقيداً ودموية مما شهدته النكبة الأولى.