تشير المعلومات الواردة من المجلس النرويجي للاجئين إلى تدهور غير مسبوق في الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة، حيث يواجه السكان واقعًا مأساويًا يتجسد في خيارين لا يُحتملان: الموت جوعًا أو المجازفة بالتعرض لإطلاق النار أثناء السعي للحصول على الغذاء. هذا الخيار العبثي يعكس حجم المأساة الإنسانية التي تضرب أكثر من مليوني إنسان محاصرين، تحت ضغط الجوع والقصف والتهجير القسري.
ساحة موت مفتوحة
منذ إطلاق ما يُعرف ببرنامج التوزيع الإسرائيلي للمساعدات، تحول المشهد الإنساني في غزة إلى ساحة موت مفتوحة، حيث استُبدلت مئات نقاط التوزيع التي كانت تعمل بإشراف الأمم المتحدة خلال فترات الهدوء، بأربعة مواقع فقط تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية. هذه المواقع، المحاطة بأسلاك ومعسكرات وتخضع لنظام دخول قسري، أصبحت فخاخًا قاتلة لمن يجرؤون على محاولة الوصول إليها. فبدلاً من أن تكون هذه المناطق ملاذًا للمحتاجين، تحولت إلى ساحات مجازر تسقط فيها الضحايا بالعشرات يوميًا.
الضحايا ليسوا فقط من الرجال أو الشبان، بل من الأطفال والنساء والمسنين، بمن فيهم مقدمو الرعاية والأيتام، ما يكشف حجم الاستهتار بالمدنيين، والتجاهل الفادح لقواعد القانون الإنساني الدولي، الذي يُفترض أن يحمي المدنيين في أوقات النزاع. الأسابيع التي تلت إطلاق هذا البرنامج الإسرائيلي، حسب بيان المجلس، كانت من بين الأكثر دموية منذ بدء الحرب في أكتوبر 2023، مع أكثر من 500 قتيل وقرابة 4000 جريح في أقل من شهر، فقط لمحاولتهم الحصول على الغذاء.
ببيئة كارثية لا تصلح للحياة
ما يزيد من خطورة الوضع هو التفكيك المنهجي والمتعمد للنظام الإنساني في غزة، وهو ما يُشير إليه المجلس باعتباره سياسة تهدف إلى كسر آخر أدوات النجاة، ومنع وصول المساعدات من خلال المؤسسات الدولية، واستبدالها بمنظومة أمنية تتحكم في توزيع الغذاء بطريقة لا إنسانية، ولا تحترم كرامة الإنسان ولا حدوده الجسدية أو النفسية. هذا النموذج الذي يُفرض الآن لا يُعد استجابة إنسانية، بل هو أداة لمعاقبة السكان جماعيًا، عبر التجويع والترويع والقتل المنهجي.
ويبدو أن هذه السياسات لا تستهدف فقط كسر إرادة السكان، بل أيضًا تحييد الجهود الإنسانية العالمية، واستبعاد المنظمات الدولية من أدوارها، خاصة الأونروا، وهي خطوة تتعارض كليًا مع مبادئ القانون الدولي الذي ينص على الحياد والاستقلالية في إيصال المساعدات. ومع انهيار البنية التحتية وانعدام الوقود والمياه النظيفة والصرف الصحي والكهرباء، أصبح الوضع في غزة شبيهًا ببيئة كارثية لا تصلح للحياة، وهو أمر أقره المجلس بوضوح حين قال إن ما يحدث “ليس خطة لإنقاذ الأرواح”، بل هو شكل جديد من أشكال الإبادة البطيئة.
فشل أخلاقي عالمي
النداء الذي وجهه المجلس النرويجي للاجئين، ومعه أكثر من 100 منظمة إنسانية أخرى، يُمثّل صرخة استغاثة عاجلة للمجتمع الدولي. فهو لا يطالب فقط بتوفير الغذاء أو وقف إطلاق النار، بل يضع الدول أمام مسؤولياتها الأخلاقية والقانونية، مُذكّرًا بأن تجاهل هذه الجرائم يقوّض مصداقية النظام الدولي، ويمنح الإفلات من العقاب شرعية مدمّرة.
الرسالة الختامية التي يوجّهها البيان تتلخص في ضرورة التحرك العاجل من قِبل الدول والمؤسسات الدولية لوضع حد للحصار، واستعادة آلية تنسيق بقيادة الأمم المتحدة تشمل المجتمع المدني الفلسطيني وتسمح بوصول المساعدات بأمان، وتعيد الاعتبار للكرامة الإنسانية التي باتت تُنتهك في كل زاوية من زوايا القطاع المحاصر.
الوضع في غزة لم يعد مجرد أزمة إنسانية، بل تحوّل إلى فشل أخلاقي عالمي، يتطلب أكثر من مجرد إدانات، بل إجراءات ملموسة لوقف آلة الموت، وإنقاذ ما تبقى من حياة في واحدة من أكثر بقاع العالم تضررًا بالصراع والحصار.