تكشف تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت عن واحدة من أكثر محطات الحرب الإسرائيلية على غزة إثارة للجدل، وتسلّط الضوء على استخدام إسرائيل لأساليب دعائية ومعلومات مضللة، ليس فقط لتعزيز موقفها العسكري، بل لتعطيل مسارات التفاوض، وتأخير الوصول إلى تسويات، وعلى رأسها صفقة تبادل الأسرى. ما أعلنه غالانت بشأن “نفق رفح” ليس تفصيلاً بسيطًا، بل هو فضحٌ موثّق لنهجٍ كامل يرتكز على صناعة تهديدات وهمية لتبرير العدوان وخلق غطاء سياسي لاستمراره.
القصة بدأت بصور نشرتها وسائل إعلام إسرائيلية في أغسطس/آب 2024، قالت إنها تُظهر نفقًا ضخمًا مكوّنًا من ثلاثة طوابق، يمتد تحت محور فيلادلفيا المحاذي للحدود المصرية. تم تقديم هذه الصور كدليل على البنية التحتية “الخطيرة” التي تديرها حماس في المنطقة، وتحوّلت في الإعلام الإسرائيلي إلى رمز لحتمية اجتياح رفح واستمرار العمليات العسكرية، رغم الكارثة الإنسانية المتفاقمة في القطاع. لكن غالانت فاجأ الجميع بتأكيده أن الصور لا تُظهر نفقًا من الأساس، بل مجرد قناة مياه طبيعية، جرى استخدامها كأداة للتضليل الإعلامي والسياسي.
هذا الاعتراف يُسقط ورقة من أوراق الرواية الرسمية الإسرائيلية، ويؤكد أن الحديث عن تهديد استراتيجي كان مُفتعلاً، يهدف لإعطاء الذرائع لاقتحام رفح، المنطقة الأخيرة التي لم تطلها آلة الحرب الإسرائيلية بالشكل الكامل بعد. الأخطر أن الهدف، كما أوضح غالانت، لم يكن عسكريًا بقدر ما كان سياسيًا: تعطيل صفقة تبادل الرهائن. بعبارة أخرى، تم استخدام الكذب والتلاعب الإعلامي لإعاقة جهود إنقاذ الأسرى الإسرائيليين، وهو ما قد يفتح ملفًا بالغ الحساسية داخل المجتمع الإسرائيلي الذي يُحمّل القيادة، وخاصة نتنياهو، مسؤولية تأخير الإفراج عنهم.
هذا الأسلوب في إدارة الحرب ـ القائم على التهويل وصناعة الخطر ـ ليس جديدًا، بل يندرج ضمن استراتيجية أوسع استخدمتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لإطالة أمد العمليات العسكرية وتبرير جرائم الحرب أمام المجتمع الدولي. لكن الجديد هو أن هذا النهج بدأ يواجه تصدعات من الداخل. فتصريحات غالانت تعني ببساطة أن قيادة الجيش والحكومة لم تكن موحدة في تقييم الموقف، وأن هناك إدراكًا بأن التلاعب بالحقائق لم يعد مستدامًا في ظل الضغط الداخلي والدولي.
الرأي العام الإسرائيلي، الذي ظل لفترة طويلة داعمًا للنهج الأمني الشرس، بدأ يتململ من التضليل المتكرر. ما كان يُعتبر “إنجازًا استخباراتيًا” أصبح الآن فضيحة سياسية. والمطالبات المتزايدة بلجنة تحقيق تعكس بداية تصدع في جدار الثقة بالحكومة، بل وبالمؤسسة العسكرية ذاتها، التي من المفترض أنها الحارس الأمين على الحقيقة والأمن القومي.
ما جرى في قضية “نفق رفح” هو أكثر من مجرد واقعة تلاعب بصري أو دعاية حربية. إنه مثال صارخ على كيف تُستخدم الأكاذيب لخلق واقع سياسي يخدم أجندة حكومة مأزومة تبحث عن انتصارات وهمية في الوقت الذي تغرق فيه في المستنقع الغزاوي. وهو في ذات الوقت مؤشر على الخوف الحقيقي داخل المؤسسة الأمنية من مواجهة تبعات إخفاقات الحرب، خاصة مع تنامي الأصوات الداعية لمحاسبة من ضللوا الرأي العام.
في ضوء هذا، يصبح التأكيد على رواية الحقائق وفضح التلاعب ضرورة أخلاقية وسياسية، سواء داخل إسرائيل أو في المحافل الدولية. فالكشف عن هذا التضليل ليس فقط أداة لمحاسبة المسؤولين، بل خطوة ضرورية لتفكيك خطاب الحرب المستند على الخوف والمبالغة. وهو أيضاً تذكير بأن المعركة لم تعد فقط على الأرض، بل على الرواية والوعي.