مرت عشرة أعوام على العملية الإرهابية، التي استهدفت المجلة الفرنسية الساخرة «شارلي إيبدو»، والتي خلفت حينها عدداً من الضحايا من بينهم ثمانية من طاقم التحرير. المجلة، التي تجد رعاية ودعماً خاصاً من الرئاسة الفرنسية، ومن الرئيس إيمانويل ماكرون، والتي كانت قد أعلنت منذ البداية أن الهجوم لن يوقفها ولن يخيفها، تابعت نشر رسومها الساخرة، التي كان في بعضها إساءة للنبي محمد، صلى الله عليه وسلم، ولمقدسات المسلمين، بل اتخذت من مناسبة هذه الذكرى في يناير الماضي فرصة لإصدار عدد خاص يحوي رسوماً مختارة.
فتح الهجوم الدامي، منذ ذلك الوقت، باباً لنقاشات لم تنته حول حدود حرية التعبير. كانت فرنسا الرسمية ترى أن الحرية هي قيمة بلا حدود، وأنها يجب أن لا تخضع لأي تقييد، كما كانت ترى أن المشكلة هي في الأقلية المسلمة، التي ترفض الاندماج وتقبّل القيم الغربية. في الوقت ذاته كانت أصوات أخرى ترى أن ذلك الاستفزاز المقصود لمشاعر المسلمين لا مبرر له، خاصة أنه سيكون من الصعب إقناع الجميع بالتفهم والتجاوز. لفت أولئك أيضاً إلى أن التذرع بأن النقد والسخرية يطالان الأديان الأخرى، وعلى رأسها المسيحية، لا يبدو أن بإمكانه أن يغير شيئاً، فبالنسبة للغالب من المسلمين فإن المساس بعقيدتهم يعتبر أمراً لا يمكن التسامح معه.
الجدل حول حدود حرية التعبير انتقل للعالم الإسلامي، فمع ما وجدته العملية الإرهابية من إدانة وشجب، إلا أن الأصوات انقسمت ما بين ضرورة إرسال رسالة شديدة اللهجة للأوروبيين، بالكف عن المساس بما يتعلق بالدين الإسلامي، وبين أصوات أخرى كانت تدعو لتجاهل الإساءات والاكتفاء بتقديم الصورة السمحة الحقيقية للإسلام. كانت هذه الأصوات تقول إن مجلة كانت ضيقة الانتشار مثل «شارلي إيبدو» استفادت كثيراً من هذه الضجة ومن التعاطف، الذي وجدته إثر الهجوم. بالفعل، فإن الإحصاءات الفرنسية أوردت إن النسخ المطبوعة من الصحيفة بعد يوم من الحدث وصلت إلى ما يزيد عن الثمانية ملايين نسخة، وهو رقم كبير، وما كان بالإمكان الوصول إليه في الظروف المعتادة.
في بريطانيا، التي تشهد زيادة ملحوظة في نسبة جرائم الكراهية ضد المسلمين، منذ بداية أحداث غزة، وبالتزامن مع بداية شهر رمضان، أعلنت الحكومة عن مجموعة عمل برئاسة المدعي العام، أو المستشار القانوني للحكومة دومينيك غريف. مهمة هذه المجموعة هي تعريف الخطاب المعادي للمسلمين أو «الإسلاموفوبي». المهمة ليست سهلة، فكما كان الحال مع الرسوم الفرنسية المسيئة، فإن التفريق بين النقد المسموح به والسخرية الناتجة عن الكراهية ليس أمراً بسيطاً.
الحكومة البريطانية تسعى لأن تخلق توازناً صعباً، فهي من ناحية لا تريد إحداث حالة من الغضب عبر إعطاء الضوء الأخضر للعنصريين، لكنها في الوقت ذاته لا تريد أن تمنح الإسلام حصانة مطلقة من النقد، أو أن تظهر بمظهر المقيد لحرية التعبير، خاصة أن بريطانيا تواجه بالفعل انتقادات في هذا الخصوص، كان آخرها انتقاد نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس. من ناحية ثالثة يخدم إعلان هذه المجموعة والإيحاء بالتعاطف توجهات الحكومة الساعية لكسب الناخبين المسلمين، الذين كان بعضهم يشعر بأن الدولة تخلت عنهم.
من المفارقات هنا أن مصطلح «الإسلاموفوبيا» نفسه يواجه خلافات حول تعريفه، الذي تم تبنيه قانونياً منذ سنوات، ومررته كل من حكومتي العمال والمحافظين. كان من عيوب ذلك التعريف أنه كان عاماً وفضفاضاً ونسبياً، حيث كان يربط كراهية الإسلام بالعنصرية، وبكل استهداف للمسلمين. لم ينه ذلك التعريف الجدل، فعلى سبيل المثال، وفي حين يرى البعض أن نظرية «الاستبدال الكبير»، التي تدور حول التحذير من تحول أوروبا إلى قارة مسلمة خلال سنوات، بسبب الهجرة، هي إحدى مظاهر «الإسلاموفوبيا»، يرى آخرون أن تلك الأفكار هي حقيقة، وأن التهديد الإسلامي هو خطر واقعي. اليمينيون في بريطانيا وفي غيرها من الدول الأوروبية، والمتهمون بمعاداة الإسلام، يعتبرون ان «الإسلاموفوبيا» أصبحت سيفاً مسلطاً على الأفكار وأنها أصبحت تهمة تواجه كل من يقدم أطروحات لا توافق التيار السائد.
إبان تطرقها للموضوع قدمت مجلة «إيكونومست» مثالين على ما يمكن اعتباره إساءة استغلال لمصطلح «الإسلاموفوبيا»، الأول هو ما حدث في عام 2020 حينما علق حزب العمال عضوية السير تريفور فيليبس الرئيس السابق لهيئة «مراقبة المساواة» لأسباب من بينها قوله في إحدى خطاباته إن «المسلمين يرون العالم بشكل مختلف عنا». أما الثاني فهو اتهام ستيفان غرير الأستاذ بجامعة بريستول بواسطة الجمعية الإسلامية في الجامعة بمعاداة الإسلام لقوله، إن الإسلام انتشر بواسطة الحرب والغزو، وهي التهمة التي تمت تبرئته منها، على الرغم من عجز الجامعة عن التدخل لحساسية الموقف وسيولة التعريف.
من ناحية أخرى يركز آخرون على أن الاتهام بمعاداة الإسلام، يجب ألا يمثل ذريعة لإفلات مرتكبي الجرائم الخطيرة من العقاب. من أصحاب هذا الرأي السير كين ماكالوم رئيس جهاز الاستخبارات الداخلية البريطاني المعروف بـ»إم 15»، الذي قال في تصريح في العام الماضي، إن 75 في المئة من عمل مكافحة الإرهاب يتعلق بـ»الإرهاب الإسلامي»، وذلك في بلد تقدر نسبة المسلمين فيه بحوالي 6.5 في المئة.
المجلس الإسلامي البريطاني، الذي يعتبر بمثابة المظلة الجامعة للمساجد والروابط الإسلامية السنية، رحب بمجموعة العمل الجديدة، التي تأتي في وقت تزداد فيه جرائم الكراهية ضد المسلمين، حيث سجلت منظمات متخصصة في رصد مثل هذه الانتهاكات مثل «تل ماما» أو «أخبر أمي» آلاف الشكاوى الواردة خلال العامين الماضيين من الجالية المسلمة. منظمة «تل ماما» تركز أيضاً على رصد منشورات الكراهية ضد المسلمين على وسائل التواصل الاجتماعي، ووفق دراستها فهي تعتبر أن موقع «إكس» يتصدر قائمة المواقع المتسامحة مع المحتوى المعادي للمسلمين. بهذا، فالمنظمة تطالب بالالتفات أيضاً إلى ما يتعلق بضرورة ضبط وفلترة ما ينشر على الوسائط المختلفة، لما للرسائل المبذولة على الإنترنت من آثار. المنظمة، وكذلك كتاب وناشطون مثل الصحافي البريطاني روشان محمد صالح، يعتبرون أن المسلمين يعيشون في أوضاع صعبة، وفي مناخ تتزايد فيه أعمال الكراهية ضدهم سواء كانوا لاجئين في مراكز الإيواء، أو حتى برلمانيين أو سياسيين، حيث ترتفع الأصوات، التي تطالب بإزاحة المسلمين من الفضاء العام.
الحديث عن البرلمانيين، يعيد إلى الأذهان شهادة البرلمانية المسلمة زارا سلطانة في عام 2021، حين تحدثت في مداخلة مؤثرة عن الإسلاموفوبيا، التي يجب عدم السكوت عنها، وعن حجم الصعوبات، التي تعرضت لها، والتي تتعرض لها كل سيدة مسلمة، بل كل مسلم، يدخل إلى عالم السياسة في بريطانيا، وهي صعوبات تبدأ بالمضايقة عبر إرسال رسائل كثيفة مسيئة وتنتهي إلى ما هو أكبر. في أغسطس من العام الماضي حدث ما كان كثيرون يخشونه، حيث انفجرت الأوضاع إثر شائعة بمقتل ثلاث فتيات على يد مراهق مسلم. كانت تلك الشائعة كافية لإحياء كل مشاعر الإسلاموفوبيا. إلى جانب تخريب مرافق عامة تم حينها الهجوم على مساجد وفنادق تؤوي لاجئين، قبل اكتشاف أن مرتكب الجريمة الفظيعة لم يكن مسلماً، وأن الأمر كله لم يكن سوى محض شائعة يمينية مغرضة بدأ بإطلاقها موقع مشبوه يحمل اسم «غزو أوروبا».