تسلّط المطالبات الدولية المتصاعدة بإغلاق “مؤسسة غزة الإنسانية” الضوء على ما يبدو أنه انحراف خطير في مسار العمل الإغاثي، وتحول مؤسسة يفترض أن تكون إنسانية الطابع إلى أداة سياسية وأمنية في يد الولايات المتحدة وإسرائيل. فبعيدًا عن الشعارات المرفوعة، باتت المؤسسة موضع اتهام من قبل 130 منظمة إغاثة عالمية بارتكاب انتهاكات جسيمة لقواعد المساعدات الإنسانية، وبتورطها المباشر أو غير المباشر في التسبب بمجازر جماعية بحق الفلسطينيين الذين يغامرون بحياتهم للحصول على الغذاء.
توزيع المساعدات تحول إلى مصائد موت
من حيث الشكل، تحاول مؤسسة غزة أن تملأ فراغًا إغاثيًا متعمّدًا صنعته إسرائيل عبر إغلاق المعابر الإنسانية ومنع دخول المساعدات منذ مارس الماضي، وهو ما أدى إلى حالة مجاعة غير مسبوقة طالت قرابة 2.4 مليون فلسطيني. لكن من حيث المضمون، فإن هذه المؤسسة تعمل بعيدًا عن أي إشراف أممي أو رقابة دولية، وتُدار وفق أجندة مشتركة بين تل أبيب وواشنطن، في تجاوز صارخ لأبسط معايير الحياد والشفافية المطلوبة في العمل الإنساني.
المعطيات القادمة من الميدان تُظهر أن نقاط توزيع المساعدات المرتبطة بالمؤسسة تحولت إلى مصائد موت، حيث أقر الجيش الإسرائيلي باستخدام القوة ضد المدنيين المتجمهرين للحصول على الطعام، بينما توثق منظمات حقوقية وعشرات الشهادات عمليات قنص وإطلاق نار مباشر على الجوعى المنتظرين. وقد تجاوز عدد الضحايا جراء هذه الهجمات 583 شهيدًا وآلاف الجرحى، ما يؤكد أن المسألة لم تعد مجرد إخفاق لوجستي أو أمني، بل أصبحت سياسة ممنهجة تستهدف المدنيين في لحظة ضعفهم القصوى.
دور مزدوج
الاستمرار الأميركي في دعم المؤسسة، رغم الاعتراف الإسرائيلي الرسمي بإيقاع الأذى بالمدنيين، يكشف عن دور سياسي غامض لهذه المنظومة “الإنسانية”، لا سيما أنها أُنشئت بعيدًا عن الإطار الدولي التقليدي، ما يثير تساؤلات حول أهدافها الحقيقية. ففي السياق الأوسع للحرب، يبدو أن المؤسسة تلعب دورًا مزدوجًا: من جهة توفر غطاءً إعلاميًا يخفف من الضغط الدولي على إسرائيل بحجة وجود “قناة مساعدة”، ومن جهة أخرى تستخدم كأداة ضغط وابتزاز جماعي للفلسطينيين المحاصرين بين الجوع والموت.
من هذا المنظور، يمكن فهم المطالبة بإغلاق مؤسسة غزة على أنها ليست فقط موقفًا إنسانيًا وإنما دعوة لوقف استخدام الجوع كسلاح في الصراع السياسي والعسكري. فحين تتحول نقاط توزيع الغذاء إلى ساحات قنص، وعندما يُفرض على الجائعين أن يختاروا بين المخاطرة بحياتهم أو الموت جوعًا، فإن الحديث عن “العمل الإنساني” يصبح عبثيًا.
تفتيت النسيج المجتمعي
كما أن غياب الشفافية المالية، واستخدام محققين وشركات خاصة غير خاضعة للمساءلة، يعمّق الشكوك حول ما إذا كانت المؤسسة مجرد أداة لإدارة السكان الفلسطينيين بطريقة أمنية تهدف إلى تفتيت النسيج المجتمعي وإضعاف قدرة المدنيين على الصمود، تحت غطاء تقديم المساعدة.
في النهاية، يتضح أن “مؤسسة غزة الإنسانية” لم تعد تمثل مفهوم الإغاثة، بل أصبحت واجهة لسياسات قمعية تمارس عبر أدوات ناعمة وخشنة في آنٍ واحد. ومن هنا تأتي المطالبات الدولية المتزايدة بإغلاقها كخطوة رمزية وعملية في آنٍ واحد، لإنهاء أحد أوجه التواطؤ الدولي مع الحرب الجارية ضد سكان قطاع غزة.