أبدأ بسؤال يجول في عقول المراقبين والمتابعين: هل تشهد السنوات القادمة نهاية الولايات المتحدة وصعود الصين والهند؟
أتذكر ما قاله بطرس غالي، الذي شغل منصب الأمين العام السادس للأمم المتحدة بين عامي 1992 و1996، حين تطرق إلى مستقبل الشرق الأوسط قائلا إن الولايات المتحدة ستصاب بالشيخوخة خلال السنوات القادمة، مما يجبرها في نهاية المطاف على تغيير سياستها في المنطقة، ويمهد الطريق للعملاقين الصيني والهندي للبروز على الساحة العالمية.
بعد أعوام طويلة من الصراع، تغيرت أمور كثيرة، بينها توقيع اتفاقية سلام بين إسرائيل وكل من الأردن ومصر، وتوقيع اتفاقية أوسلو بين الفلسطينيين وإسرائيل. ومع ذلك، لم يحصل تقدم في المفاوضات النهائية على المسار الفلسطيني، وقد عُزي ذلك إلى ضعف الموقف العربي، مما دفع بطرس غالي إلى المطالبة بتشكيل جبهة عربية قوية لدعم القضية الفلسطينية.
فهل ثمة إرهاصات تشير إلى بداية تقهقر الولايات المتحدة بعد سنوات قليلة؟ لا ننسى أن هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية كانت نتيجة طموح أدولف هتلر في التوسع وبسط سيطرته على العالم من خلال القوة العسكرية. وكانت النتيجة أن هُزمت ألمانيا على أبواب الاتحاد السوفييتي بعد تعذر وصول الإمدادات للجيش الألماني، وموجات البرد القارس التي قضت على الآلاف من الجنود الألمان.
ربما يعيد المشهد الألماني نفسه، مع ما يجري على الساحة الإقليمية، ومع أطماع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في المنطقة التي وصلت إلى حد الجنون. قبل ذلك، تورطت الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، واليوم يحاول ترامب فرض سيطرته على كندا وغرينلاند.
الضغط الذي مُورس على الرئيس الأميركي بوش الابن للانسحاب من العراق كان كبيرا، إلا أنه بقي مصرا على موقفه، وهو النصر الذي قطعه على نفسه بأن يرى العراق بلدا “حرا ديمقراطيا”، على حسب زعمه.
نتيجة هذا التعنت من قبل بوش، جاء قرار تشكيل لجنة بيكر – هاملتون الخاصة بالعراق، التي كان هدفها الأول والأخير إنقاذ ما تبقى من سمعة الجمهوريين، ومحاولة كسب معركة الانتخابات الرئاسية.
لم يبق للجمهوريين في الإدارة الأميركية حينها متسع من الوقت لتحقيق الانتصار على الجماعات المسلحة في العراق. وكانت المقاومة تشتد وتيرتها يوما بعد يوم، والتدخلات الإقليمية لم تترك العراق وشأنه، خصوصا إيران الطامعة في خيرات العراق والسيطرة عليه.
جاء المخضرم السياسي جيمس بيكر، الذي كان وزيرا للخارجية خلال حكم الرئيس جورج دبليو بوش، وهو يعرف تماما أن الحل في خروج الجيش الأميركي من داخل العراق يحتاج إلى مساعدة سورية وإيرانية، لذلك طالب في قرار لجنته بضرورة إشراك الدولتين من أجل خروج الولايات المتحدة من العراق.
لكل واحدة من تينك الدولتين، كانت لها شروطها ومطالبها. كان المطلب الإيراني معروفا، وهو عدم اعتراض برنامجها النووي، أما سوريا فكانت تروم إعادة الجولان المحتلة. مثل هذه المطالب تحتاج إلى نية صادقة من قبل الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل، فضلا عن تسوية الوضع العراقي الداخلي ولم شمل العراقيين وتقسيم الثروة بينهم.
وبالعودة إلى ما طرحه بطرس غالي، فقد دعا إلى تشكيل حلف عربي تنضم إليه بعض الدول المتضررة من السياسة الأميركية، مثل كوريا الشمالية والصين وغيرهما. هذا قد يجبر الولايات المتحدة على تغيير سياستها، أو يساعد على بروز الهند والصين كقوتين عظميين، فهما تتحينان الفرص لسد الفراغ بعد أفول شمس الولايات المتحدة.
يبدو أن ترامب لا يكترث اليوم كثيرا بتاريخ بلاده وتاريخ من سبقه من الرؤساء. هناك مشاريع يطمح لتنفيذها، أهمها على صعيد الاقتصاد، وهذا مهم لكي يحافظ على أسهمه الانتخابية. كما يسعى إلى تقليص المد الصيني وحصره داخل حدود الصين.
وقد أعلن قبل ذلك أن بلاده ليست مهتمة بصراع عسكري مع الصين، لكنها “مستعدة بشكل جيد للغاية” لمثل هذا السيناريو، ففي إستراتيجية الأمن القومي التي أصدرها ترامب في ولايته الأولى نجد تحولا كبيرا في النظرة الأميركية تجاه الصين.
وأكدت تلك الإستراتيجية أن الصين تشكّل تحديا جيوسياسيا أساسيا، وشددت على الحاجة إلى مواجهة توسعها عسكريا واقتصاديا. ورفضت الإستراتيجية النهج السابق، المتمثل بالتعامل مع الصين كونها شريكا محتملا، وحددتها بدلا من ذلك على أنها خصم عنيد.
الكاتب والمحلل السياسي الأميركي لويس فيلالوبوس وجه رسالة تضمنت انتقادا لاذعا لإدارة ترامب، واتهمها بأن قراراتها وأوامرها التنفيذية لم تتسبب بالضرر لخصومها فقط، بل طالت حتى من صوّتوا لصالحها.
يبدو أن الصراع الدائر اليوم في العالم ليس بين الولايات المتحدة والدول التي لا تدور في فلكها، وإنما صراع ترامب مع نفسه، وهو أخطر أنواع الصراعات المعروفة. الولايات المتحدة اليوم بحاجة ليس فقط إلى تقوية الاقتصاد وفرض الهيمنة، بل إلى تخليصها من تهور ترامب وسياسته الهوجاء.