تعيش الأوساط الأكاديمية والعلمية في إسرائيل حالة من القلق العميق بعد الخطوة الأوروبية غير المسبوقة بمراجعة اتفاقية الشراكة مع تل أبيب على خلفية الحرب المستمرة في غزة. هذا القرار، الذي لم يصل بعد إلى حد القطيعة، إلا أن مجرد طرحه للنقاش أثار زلزالاً سياسياً وأكاديمياً داخل إسرائيل، وفضح هشاشة العلاقة بين المؤسسات العلمية الإسرائيلية والدعم الدولي الذي طالما شكل أحد أبرز أعمدة نجاحها.
المستقبل العلمي لإسرائيل مهدد
ردود الفعل الإسرائيلية لم تكن عادية، بل صدرت عن مؤسسات تُعتبر من أعمدة الدولة، كالمجمع القومي للعلوم والآداب، وأكاديمية العلوم، ومجلس التعليم العالي. كلها تحدثت بصوت واحد: الخطر داهم، والمستقبل العلمي لإسرائيل مهدد، والانعزال الأكاديمي المحتمل قد يُفقد الدولة موقعها في خارطة البحث العالمية، ويهدد أمنها الاستراتيجي، كما عبّر رئيس المجمع ديفيد هرئيل حين ربط بين الأبحاث العلمية ومنظومات الدفاع مثل “القبة الحديدية”.
أحد أبرز مظاهر الصدمة داخل إسرائيل هو إدراكها أن دعم الاتحاد الأوروبي لم يعد مضموناً كما كان، وأن التآكل الأخلاقي المرتبط بالحرب على غزة بدأ يُحدث شرخاً فعلياً في شبكة علاقاتها الدولية، لا سيما تلك التي ترتكز على قيم مشتركة من قبيل حقوق الإنسان والعدالة الدولية. فبعد أن كانت إسرائيل تراهن على موقعها كمركز علمي عالمي، تجد نفسها اليوم أمام بوادر عزلة أكاديمية بدأت مع انسحاب عشرات الجامعات والمؤسسات من التعاون معها، وقد تتوسع لتشمل حرمانها من أهم برامج الدعم والتمويل الأوروبية.
قرارات عملية تهدد ركائز إسرائيل
برنامج “هورايزون”، الذي يُعد رئة البحث والتطوير في إسرائيل، يتصدر المخاوف. فقد استفادت منه إسرائيل بما يزيد على مليار يورو خلال السنوات الماضية، ويمثل القناة الأهم للباحثين الإسرائيليين للتفاعل مع النخبة العلمية في أوروبا. غيابه المحتمل لا يهدد فقط الأبحاث، بل يدفع بالنخبة العلمية إلى التفكير في الهجرة، ما يعني تسارع في “نزيف العقول”، وتراجع طويل الأمد في القدرة التنافسية لإسرائيل على الصعيد العلمي والتكنولوجي.
ما يُثير الانتباه أيضاً أن هذه التحذيرات لا تصدر عن معارضين للحكومة أو منظمات حقوقية، بل عن أكثر المؤسسات التصاقاً بجهاز الدولة، مما يدل على عمق الصدمة، واعتراف ضمني بأن العالم لم يعد ينظر إلى إسرائيل كما كان يفعل قبل 7 أكتوبر. المعادلة تغيرت، والمجتمع الدولي، حتى وإن كان بطيئًا في قراراته، بدأ بمساءلة إسرائيل أخلاقياً، وهذه المساءلة بدأت تُترجم إلى قرارات عملية تهدد ركائز تفوقها الاستراتيجي.
إسرائيل تفقد الشرعية
الأصوات الإسرائيلية، وإن اتسمت بالمخاوف التقنية والعلمية، تحمل في طياتها إدراكاً سياسياً بأن الاستمرار في تجاهل تداعيات الحرب في غزة سيكلف إسرائيل أكثر مما تتصور، ليس فقط على مستوى صورتها في العالم، بل في البنية الداخلية التي طالما افتخرت بأنها متفوقة ومتصلة بالعالم المتقدم.
إنها لحظة مواجهة حقيقية، بين دولة تستند إلى تفوق علمي واقتصادي في علاقاتها الدولية، وبين واقع سياسي وأخلاقي آخذ في الانحدار، فرضته سياسة القوة المفرطة في غزة، والتي بدأت تُفقد إسرائيل الشرعية التي بنتها على مدار عقود.