حين أعلنت الرياض وطهران عن استئناف العلاقات الدبلوماسية في مارس 2023 برعاية صينية، تصاعدت الآمال بإمكانية تدشين مرحلة جديدة من الاستقرار الإقليمي، بعد سنوات من القطيعة والصراع بالوكالة. غير أن الأشهر الأخيرة أظهرت أن هذا التقارب، رغم مظاهره البروتوكولية، ظل هشًا ومعرضًا للنكوص أمام أول اختبار جدي. تصاعد التوترات في البحر الأحمر، والقلق السعودي المستمر من النشاط النووي الإيراني، إضافة إلى الحوادث القضائية مثل تنفيذ الإعدامات بحق إيرانيين في السعودية، كشفت أن جذور الخلافات بين الطرفين ما تزال عميقة ولم تعالج بالكامل، بل إن بعض المراقبين يرون أن التقارب كان أقرب إلى هدنة مؤقتة فرضتها ظروف سياسية خارجية أكثر من كونه تحولاً حقيقيًا في الرؤى الاستراتيجية لكل من الرياض وطهران.
تصدع في جدار التقارب: قراءة للمؤشرات المبكرة
على الرغم من تبادل السفراء وفتح السفارات وتبادل زيارات المسؤولين، إلا أن الأرضية التي بني عليها هذا التقارب بدأت تهتز. فقد جاء تصاعد هجمات الحوثيين على الملاحة البحرية في البحر الأحمر بدعم إيراني غير مباشر، ليعيد للأذهان أن أدوات الضغط الإيرانية ما تزال نشطة ولم تتوقف عن استهداف المصالح السعودية. هذا التصعيد البحري تزامن مع تحذيرات أمريكية من أن استمرار هذه الهجمات قد يجر المنطقة إلى مواجهات عسكرية أوسع، مما دفع الرياض إلى مراجعة حساباتها بشأن جدوى استمرار سياسة اليد الممدودة تجاه طهران. في موازاة ذلك، عاد الملف النووي الإيراني إلى الواجهة، مع تجدد المخاوف السعودية من توجه إيران نحو مستويات تخصيب مرتفعة لليورانيوم، وهو ما اعتبرته الرياض تهديدًا مباشرًا للأمن الإقليمي، خاصة مع ضعف الثقة بآليات الرقابة الدولية على النشاط النووي الإيراني. وزاد من تعقيد المشهد تنفيذ السعودية حكم الإعدام بحق ستة إيرانيين، ما أثار غضبًا رسميًا في طهران التي رأت في ذلك “طعنة في جهود التقارب”، رغم أن السعودية اعتبرت المسألة شأنًا قضائيًا داخليًا لا ينبغي تسييسه.
جذور التوتر: صراع الرؤى والمصالح
إن القلق السعودي لا ينبع فقط من التطورات الظرفية بل من قراءة أعمق للتباين الجوهري في الرؤى الاستراتيجية بين البلدين. فبينما تسعى السعودية إلى استقرار إقليمي يخدم خططها الطموحة ضمن “رؤية 2030″، التي تراهن على البيئة الآمنة الجاذبة للاستثمار، ترى إيران أن الفوضى الإقليمية تخدم أهدافها التوسعية وتمكنها من فرض نفوذها عبر حلفائها من الميليشيات المسلحة. ولعل هذا التباين في الرؤية يظهر بشكل صارخ في ساحات الصراع الإقليمي مثل اليمن، حيث تستمر طهران في دعم الحوثيين، أو في لبنان وسوريا والعراق، حيث ترتبط إيران بشبكات نفوذ تتقاطع مصالحها مع مشاريع السعودية في المنطقة. علاوة على ذلك، فإن الضغوط الدولية تزيد المشهد تعقيدًا؛ فالانفتاح السعودي النسبي على الصين وروسيا أثار حفيظة واشنطن، التي لا تزال ترى في السعودية شريكًا محوريًا يجب أن يبقى ضمن استراتيجيتها لاحتواء إيران، مما يفرض على الرياض خيارات صعبة بين الرغبة في تنويع تحالفاتها الدولية وبين الالتزام بتوازنات تقليدية تصب في خانة التصعيد ضد إيران.
السيناريوهات المستقبلية: بين إدارة التوتر والانزلاق إلى التصعيد
في ضوء المؤشرات الحالية، تبدو السيناريوهات المحتملة للعلاقات السعودية الإيرانية أكثر ميلًا نحو الحذر منها إلى الانفراج الكامل. السيناريو الأكثر ترجيحًا هو استمرار العلاقة بشكل براغماتي حذر، بحيث تستمر قنوات الاتصال مفتوحة ولكن دون تحقيق اختراقات حقيقية في الملفات الإقليمية الكبرى. هذا السيناريو يقتضي إدارة الخلافات بآليات “احتواء الأزمات” دون السماح لها بالتحول إلى صدام مباشر، خصوصًا مع إدراك الرياض أن الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة مع إيران قد ينسف مكتسباتها التنموية. غير أن احتمالية التصعيد تبقى قائمة، خاصة إذا واصل الحوثيون تصعيدهم في البحر الأحمر أو إذا اتخذ البرنامج النووي الإيراني منعطفًا دراماتيكيًا نحو العسكرة، وهو ما قد يدفع السعودية وحلفاءها إلى الرد عبر أدوات ضغط متعددة، سواء دبلوماسية أو عسكرية غير مباشرة. وفي حال فشلت قنوات الوساطة الإقليمية والدولية، فقد نشهد سيناريو أكثر خطورة يتمثل في انهيار الاتفاقات المبرمة والعودة إلى مربع الصراع الشامل عبر وكلاء الطرفين في عدة ساحات، مما يهدد استقرار المنطقة بأسرها.
أسباب لاتزال موجودة
لا شك أن اتفاق بكين شكل محطة مهمة في مسار العلاقات السعودية الإيرانية، لكنه لم ينجح في إزالة الأسباب الجذرية للصراع، بل علقها مؤقتًا تحت وطأة المصالح المتبادلة في لحظة سياسية محددة. ومع تعقد المشهد الإقليمي والدولي، يبدو أن التقارب بين الرياض وطهران سيظل رهين التوازنات الهشة، معرضًا في أي لحظة للاهتزاز أمام المتغيرات، ما لم تتم معالجة الملفات العالقة بطريقة أكثر شمولية وعبر تفاهمات أعمق تتجاوز الخطابات الدبلوماسية إلى إعادة صياغة قواعد اللعبة الإقليمية نفسها.