بعد يوم واحد فقط من تصريحات متفائلة من الرئيس الأميركي دونالد ترمب ومبعوثه الخاص ستيف ويتكوف بشأن قرب التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار في غزة، برزت تسريبات جديدة حول نسخة محدثة من المقترح الأميركي، أثارت تساؤلات حول ما إذا كان الحديث عن التقدم مجرّد خطاب سياسي أم يستند فعلاً إلى معطيات تفاوضية على الأرض.
فبينما أعلنت حركة “حماس” أنها تدرس المقترح الجديد “بمسؤولية”، ظهرت نقاط تباين أساسية بين الرؤية الأميركية والإسرائيلية من جهة، والمواقف الفلسطينية من جهة أخرى، لا سيّما بشأن ترتيبات الإفراج عن الرهائن، وأيام الهدنة، وما يُعرف بـ”مفاتيح المقايضة”.
من التدرّج في الإفراج… إلى استراتيجيات الضمان
المقترح الجديد، بحسب ما كشفته مصادر فلسطينية مطلعة لصحيفة “الشرق الأوسط”، يشير إلى خطة إفراج مرحلية عن الرهائن الإسرائيليين. فبدلاً من إطلاق عشرة رهائن دفعة واحدة في اليوم الأول – كما نصّ المقترح السابق – يتضمّن الطرح المعدل إطلاق خمسة فقط في اليوم الأول، وخمسة آخرين في اليوم السابع.
هذا التعديل لم يأتِ من فراغ، بل جاء نتيجة مشاورات مباشرة بين “حماس” ووسطاء، من ضمنهم رجال أعمال فلسطينيون-أميركيون، وهو ما يُشير إلى دخول لاعبين غير تقليديين على خط الوساطة، ربما بدعم غير معلن من واشنطن.
ووفقاً للمصادر، فإن “حماس” رأت أن توزيع الإفراج يوفّر ضمانات أفضل لتنفيذ الاتفاق بالكامل، لا سيما في ظل انعدام الثقة المتبادل بين الطرفين، في حين رأت إسرائيل في هذه الخطوة تراجعاً عن التفاهمات السابقة، ما جعلها ترفض الصيغة الجديدة حتى اللحظة.
تبادل الجثامين: لغة الرموز في الحروب الطويلة
بعيدًا عن الجانب الإنساني البحت، فإن ملف الجثامين بدأ يحتل موقعًا مهمًا في صياغة الاتفاق، كرمز للكرامة الوطنية بالنسبة للفلسطينيين، وكجزء من حسابات الرأي العام الداخلي لدى الإسرائيليين.
المقترح الجديد يتضمّن تسليم 18 جثة إسرائيلية خلال فترة الهدنة، مقابل أكثر من مائة جثة لفلسطينيين، معظمهم من غزة. هذه الأرقام لا تُقرأ فقط بوصفها بنودًا إنسانية، بل كجزء من مساومة سياسية دقيقة، تمهّد لفصل الملفات وتدير “الوقت” كعنصر تفاوض.
اللافت أن عدد أيام الهدنة لا يزال محل تجاذب: المقترح الجديد يحدّدها بـستين يومًا، بينما كانت الورقة السابقة تتراوح بين 45 و60 يومًا، في حين طالبت “حماس” برفعها إلى 90 يوماً، وهو ما لم يتم تضمينه.
مفاتيح الإفراج: توازن هش بين الرمزية والعدد
في قلب الجدل يكمن نظام المقايضة بين عدد الرهائن الإسرائيليين مقابل الأسرى الفلسطينيين. ويتكوف، بحسب ما نُقل، يُعيد طرح ما عرف بـ”مفاتيح الصفقة الأولى”: كل إسرائيلي مقابل 30 فلسطينيًا محكومًا بأحكام عالية.
لكن هذا البند، وإن تم تثبيته مجددًا، لم يخلُ من الخلافات. فـ”حماس” سعت لتعديل المعادلة لصالحها، خاصة أن الرهائن المتبقين هم جنود، لا مدنيون، وهو ما يستدعي – بحسب رأيها – رفع سقف المقايضة. غير أن تمسّك الوسطاء بالسقف السابق جاء خوفًا من انهيار التفاوض عند هذه النقطة، في وقت يتم البحث فيه عن نقاط “كسر جمود”.
قراءة ما وراء الأرقام: صفقة إنسانية أم تفاوض سياسي؟
في ظاهرها، تتحدث الورقة الجديدة عن تفاصيل إنسانية تتعلق بالرهائن، والجثامين، والهدنة. لكن في عمقها، تحمل خطوطًا سياسية أكثر تعقيدًا. فهي، أولاً، تُعيد تسليط الضوء على الدور الأميركي كمحاور مباشر وليس فقط كراعٍ، وتُعطي انطباعًا بأن البيت الأبيض بات أكثر انخراطًا بعد فترة من الصمت والارتباك.
ثانيًا، تؤكد أن “حماس” نجحت في خلق مشهد تفاوضي متعدد الأطراف، لا تقوده إسرائيل بمفردها، وإنما وسط مروحة من الوسطاء الإقليميين والفاعلين الاقتصاديين. أما ثالثًا، فتكشف أن المقايضة لم تعد محصورة في الأشخاص، بل بدأت تمتد إلى زمن الهدنة، وملف الجثامين، وأسلوب التنفيذ المرحلي.
من التفاوض إلى المستقبل: هل يملك المقترح قابلية الصمود؟
ما هو واضح حتى اللحظة أن مقترح ويتكوف الجديد لم يُرفض من “حماس”، بل قُدّم لها كـ”مسودة مراجعة” لا تزال قيد الدراسة. لكن السؤال الأهم ليس فقط حول قابلية الموافقة عليه، بل: هل هناك إرادة حقيقية من جميع الأطراف للذهاب نحو وقف إطلاق نار دائم، أم أن الحديث عن الصفقة مجرد وسيلة لإعادة التموضع العسكري والسياسي؟
التجارب السابقة في غزة تُثبت أن أكثر الاتفاقات حسمًا ووضوحًا لا تصمد طويلاً في وجه المتغيّرات الميدانية، والضغط السياسي، والخلافات على التنفيذ. ما يجعل أي هدنة – مؤقتة أو طويلة – رهن اختبار مزدوج: الصدق السياسي، واستقرار الحسابات الإقليمية.