في الوقت الذي تشهد فيه غزة واحدة من أكثر مراحلها دموية ودماراً، تحاول القوى الأوروبية والعربية أن تنفض الغبار عن “حل الدولتين” وتعيده إلى الواجهة السياسية، بعد أن غرق لسنوات في وحل المماطلة الإسرائيلية والانقسام الفلسطيني. اجتماع مدريد الأخير، الذي جمع وزراء خارجية عرباً وأوروبيين، إضافة إلى البرازيل ومنظمة التعاون الإسلامي، بدا وكأنه محاولة أوروبية جادة ــ على الأقل من حيث الشكل ــ لإنعاش مسار سياسي يحتضر.
الاعتراف بالدولة الفلسطينية
اختيار مدريد كمحطة لهذا الاجتماع لم يكن عبثياً. فالمدينة كانت مهداً لأول مؤتمر دولي رسمي بشأن الصراع العربي الإسرائيلي عام 1991، والذي دشّن عملياً مسار المفاوضات الثنائية وأطلق مفهوم “الأرض مقابل السلام”. واليوم، يبدو أن إسبانيا تحاول استعادة هذا الدور، ولكن في سياق أكثر تعقيداً وأكثر دموية، بعد أن وصل عدد ضحايا غزة إلى نحو 54 ألفاً، وسيطرة إسرائيل على أكثر من 77% من القطاع.
لكن، هل الحشد الأوروبي الجديد كافٍ للتأثير في إسرائيل ودفعها نحو “حل الدولتين”؟
الإجابة ليست بسيطة. على مستوى النوايا السياسية، يُسجّل التحرك الأوروبي – وخاصة من إسبانيا وفرنسا – كتحول ملحوظ في اللهجة تجاه إسرائيل، وربما كبداية لفك الارتباط التقليدي بموقف واشنطن المنحاز بشكل دائم لتل أبيب. هناك مزاج عام بدأ يتبلور داخل عدد من البرلمانات الأوروبية بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، كما أعلنت مالطا مؤخراً نيتها القيام بذلك في مؤتمر نيويورك المقبل، ما يعكس درجة من التراكم السياسي الداعم للقضية الفلسطينية.
ردود الفعل الأميركية
لكن على مستوى الفعل، فإن أوروبا ما زالت تفتقر إلى أدوات الضغط الحقيقية. فهي تعتمد بشكل كبير على العلاقات الاقتصادية والأمنية مع إسرائيل، وتخشى في كثير من الأحيان ردود الفعل الأميركية إذا تجاوزت الخطوط الحمراء التقليدية. وحتى عندما تعترف بعض الدول الأوروبية بدولة فلسطين، فإن هذه الاعترافات تبقى رمزية في ظل غياب قرارات تنفيذية أو فرض عقوبات على إسرائيل بسبب سياساتها في الأراضي المحتلة.
أما اجتماع مدريد، فرغم أهميته الرمزية، فإنه حتى الآن لم ينتج إطاراً تنفيذياً أو خريطة طريق عملية يمكن البناء عليها. وجاء متزامناً مع تحركات مثل اجتماع باريس الأخير والمؤتمر المرتقب برعاية فرنسية–سعودية في نيويورك، وهي تحركات يمكن أن تُفسَّر كثقل دبلوماسي متزايد، لكنه يظل متشتتاً ومفتقراً للقيادة الموحدة.
كسر الجمود
العنصر الفاصل في جدوى هذه التحركات يبقى مدى استعداد أوروبا للتحول من دور “الوسيط الناعم” إلى طرف قادر على الفعل السياسي والاقتصادي المباشر، كفرض شروط على المساعدات أو الاستثمارات، أو حتى تجميد بعض الاتفاقيات مع إسرائيل، إذا استمرت في رفض حل الدولتين. فبدون تكلفة حقيقية تفرض على تل أبيب، لن يكون لأي اجتماع، مهما كان عدد الحضور فيه أو أهمية الدول المشاركة، أي تأثير جذري في معادلة الصراع.
في الختام، يمكن القول إن التحركات الأوروبية بقيادة مدريد تمثل إشارات سياسية مهمة في لحظة مفصلية، لكنها حتى الآن تفتقر إلى أدوات الإلزام. أوروبا قادرة، بحكم موقعها وعلاقاتها، أن تلعب دوراً مركزياً في كسر الجمود، لكن ما لم تخرج من مربع البيانات الدبلوماسية إلى الفعل السياسي الحقيقي، فإن مسار “حل الدولتين” سيظل محصوراً في دائرة الشعارات، بعيداً عن واقع تتشكل فيه الوقائع بالقوة لا بالمؤتمرات.