في لحظة إقليمية تزداد فيها خيوط السياسة تعقيداً، خرجت القيادة الإسرائيلية فجأة بمجموعة مواقف متتالية تتحدث بوضوح عن ما تسميه “ضرورة حماية الدروز” في سوريا، بعد أيام فقط من اشتباكات طائفية دامية وقعت في ريف دمشق، وأسفرت عن سقوط عشرات القتلى، بينهم مقاتلون دروز وآخرون من القوات المرتبطة بالنظام السوري. وما كان يمكن اعتباره مجرد تعاطف تقليدي مع طائفة لها امتدادات داخل إسرائيل، سرعان ما تحوّل إلى لغة سياسية مباشرة تحمل في طيّاتها إشارات تهديد، بل وتلويح بتدخل عسكري محتمل.
التحذير الذي أطلقه وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس لرئيس النظام السوري المؤقت، أحمد الشرع، لا يبدو أنه جاء من فراغ أو مجرد رد فعل على مشاهد العنف الطائفي الأخيرة. وإنما جاء ليعكس قلقاً إسرائيلياً مركّباً، فيه ما هو إنساني متصل بمصير أبناء الطائفة الدرزية، وفيه ما هو استراتيجي، يتعلّق بحسابات النفوذ داخل الجغرافيا السورية في لحظة انتقال هشة، يتشكل فيها ميزان جديد للسلطة.
وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر ذهب إلى ما هو أبعد من مجرد التحذير، فدعا المجتمع الدولي إلى التدخل المباشر لحماية الدروز، مشيراً إلى أن النظام السوري وقواته، ومعهم من وصفهم بـ”عصابات الإرهاب التابعة له”، يمارسون اضطهادًا طائفيًا ممنهجًا ضد أبناء الطائفة. وهي لهجة لا تخلو من استثمار سياسي واضح، خاصة أن هذه التصريحات تأتي في أعقاب تغير بنيوي في بنية السلطة السورية، مع الإطاحة ببشار الأسد وصعود القيادة الانتقالية الجديدة.
لكن اللافت أن الموقف الإسرائيلي ليس محصوراً ضمن أطر رسمية تقليدية، بل شمل أيضاً مطالبات من داخل الحكومة ذاتها لتدخّل مباشر. وزير الداخلية موشيه أربيل وجّه رسالة إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، يطالبه فيها بالتحرك الفوري “لمنع مجزرة تلوح في الأفق”، مشيرًا إلى أن الدروز في سوريا يواجهون خطراً وجودياً، ومذكراً بأن أبناء الطائفة في إسرائيل كانوا من أوائل من لبّوا نداء الخدمة العسكرية، وأن الوقت قد حان لتردّ الدولة الجميل.
في الظاهر، تبدو هذه المطالبات وكأنها دفاع عن أبناء طائفة تعرّضت للاستهداف، لكن في الجوهر، تعكس هذه التصريحات انشغالًا إسرائيليًا بالغًا بموقع الدروز السوريين في المعادلة الجديدة بعد انهيار نظام الأسد. فإسرائيل لطالما نظرت إلى الدروز كطائفة مميزة ضمن فسيفساء المنطقة، لها حضور داخل حدودها، ومكانة خاصة داخل جيشها، ولكن لها أيضاً عمق في سوريا ولبنان يجعل منها نقطة تقاطع بين الأمن والهُوية.
الاشتباكات الأخيرة التي اندلعت في ريف دمشق جاءت على خلفية إساءة مزعومة للنبي محمد من أحد أفراد الطائفة الدرزية، وسرعان ما تحوّلت إلى مواجهات واسعة مع القوات المرتبطة بالنظام، خلّفت أكثر من 70 قتيلاً، وأجّجت نيران فتنة طائفية لم تنطفئ بعد. وعلى الرغم من أن الحكومة الانتقالية في دمشق حاولت احتواء الوضع، إلا أن الحادث كشف عن هشاشة التفاهمات الداخلية بين مختلف المكونات، وأعاد فتح ملف حساس طالما أُرجئ: كيف ستتم إدارة العلاقة مع الأقليات، خصوصاً الدروز، في سوريا ما بعد الأسد؟
بالنسبة لإسرائيل، فإن الجواب عن هذا السؤال ليس شأنًا سوريًا فحسب، بل هو شأن إسرائيلي – سوري – إقليمي. إذ لا تنظر تل أبيب إلى مستقبل الطائفة الدرزية في سوريا بمعزل عن أمنها القومي، خاصة وأن مناطق تركز الدروز في جنوب سوريا قريبة من حدودها. ومن هنا فإن التهديدات التي أطلقها كاتس وساعر، لا يمكن فصلها عن محاولات إسرائيل الاحتفاظ بدور مراقب – وربما متدخّل – في ترتيبات ما بعد الحرب، لا سيما في الجنوب السوري، حيث تتقاطع مصالحها مع حلفائها الدوليين والمحليين.
غير أن المشكلة التي تواجه إسرائيل تكمن في طبيعة النظام الجديد في دمشق. إذ إن الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، رغم تصنيف كثيرين له كوجه معتدل، لا يبدو في وارد الخضوع للضغوط الخارجية، خاصة إذا حملت طابعًا تهديديًا. فهو بحاجة إلى إثبات استقلالية قراره، وتماسك سلطته، خصوصًا في ظل منازعات داخلية لم تُحسم بعد، بين أجنحة عسكرية وأمنية كانت بالأمس القريب جزءًا من نظام الأسد.
وإذا ما أقدمت إسرائيل على خطوات تدخلية فعلية، سواء دبلوماسية أو عسكرية، فإنها تخاطر بإعادة صبغة الصراع السوري بطابع خارجي، وهي المجازفة التي يحرص كثير من الفاعلين الإقليميين على تجنّبها، خاصة في ظل الهشاشة الأمنية على طول الحدود.
يبقى السؤال الأهم: هل فعلاً باتت حماية الدروز في سوريا بندًا على جدول التدخلات الإسرائيلية، أم أن المسألة أعمق من ذلك، تتعلق بمحاولة استباق الفراغ وبناء أوراق ضغط في مرحلة التفاوض على ما بعد الأسد؟
في كل الأحوال، فإن ما يحدث في ريف دمشق ليس مجرد فتنة عابرة، بل هو مؤشر على عمق التعقيدات التي ستواجه سوريا الجديدة، وعلى حجم التداخل بين الطائفة والسياسة، لا سيما حين تصبح الأقليات أوراقًا تتقاذفها العواصم، بين من يريد حمايتها، ومن يريد احتواءها، ومن لا يمانع في استغلالها.