في مشهد إقليمي يتسم بتسارع التحولات الاقتصادية وتبدّل موازين النفوذ المالي، تسعى مصر جاهدة لإعادة التموضع كمركز جذب للاستثمارات، مدفوعةً بأزمة اقتصادية خانقة من جهة، وبفرص استراتيجية واعدة من جهة أخرى. زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى كل من قطر والكويت، وما تبعها من لقاءات رسمية واتفاقيات مبدئية، تعكس بوضوح حجم الرهان المصري على التمويل الخليجي، كرافعة أساسية للخروج من عنق الزجاجة.
رحّبت الحكومة المصرية بنتائج هذه الزيارات، التي وصفتها بالناجحة على المستويين السياسي والاقتصادي. بيانات مشتركة وُقّعت، وتفاهمات أُعلنت في مجالات حيوية كالصناعة والطاقة والعقارات والزراعة، وصولًا إلى الخدمات المصرفية والتكنولوجيا الحيوية. وتزامن ذلك مع إشارات اهتمام من دول أخرى مثل إندونيسيا والمملكة العربية السعودية، ما يدل على أن القاهرة تسعى لتوسيع رقعة الشراكات، وعدم حصرها في الحيز الخليجي فقط.
ورغم الطابع البروتوكولي لبعض هذه اللقاءات، إلا أن مضمونها يعكس محاولة مصرية واضحة لإعادة بناء الثقة مع المستثمرين، بعد سنوات من التردد والتقلب في السياسات الاقتصادية، ووسط ضغوط مالية متراكمة أثّرت على صورة البلاد كموقع آمن للاستثمار طويل الأمد.
إن الحديث عن جذب الاستثمار في مصر لا يمكن فصله عن الواقع الاقتصادي الصعب الذي تمر به البلاد. تراجع قيمة العملة المحلية، ارتفاع التضخم، والاعتماد المتزايد على التمويل الخارجي، كلها عوامل تُضعف من قدرة الحكومة على التحرك بحرية في ملف جذب الاستثمارات. لكن في المقابل، لا يمكن إنكار أن مصر ما زالت تحتفظ بعدد من المقومات التي تجعلها، نظريًا، بيئة جاذبة لرؤوس الأموال.
تتمتع مصر بسوق داخلي كبير يتجاوز 110 ملايين نسمة، وموقع جغرافي استراتيجي يربط بين إفريقيا وآسيا وأوروبا. كما تمتلك موارد بشرية واسعة، وقاعدة صناعية قيد التطوير، إلى جانب فرص واعدة في الطاقة المتجددة، خاصة في مجالي الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. كما تملك البلاد شبكة بنية تحتية حديثة نسبيًا، تم تطويرها خلال العقد الأخير، بما في ذلك الطرق، الموانئ، والمدن الجديدة التي أُنشئت لتخفيف الضغط عن القاهرة الكبرى.
لكن هذه المقومات تصطدم بجملة من العوائق التي تقف حجر عثرة أمام تدفق رؤوس الأموال. من بينها البيروقراطية المتجذرة، وعدم استقرار السياسات الضريبية والجمركية، فضلًا عن ضعف منظومة العدالة الاقتصادية، وغياب الشفافية الكاملة في تخصيص الأراضي والتراخيص. كما أن حضور الدولة في قطاعات واسعة من الاقتصاد لا يزال مصدر قلق للمستثمرين، خاصة في ظل تداخل أدوار الأجهزة السيادية مع الأطر التنفيذية.
وإذ تؤكد الحكومة حرصها على تفعيل الاتفاقيات التي أُبرمت مؤخرًا، فإن التحدي الحقيقي يكمن في قدرتها على خلق بيئة قانونية ومؤسسية مستقرة، تضمن حقوق المستثمرين وتحفّز على الدخول في شراكات طويلة الأمد، بدلًا من الاكتفاء بمشاريع ظرفية مرتبطة بالدعم السياسي أو المصالح المؤقتة.
المؤشرات الأولية القادمة من الخليج تشير إلى استعداد مبدئي لضخ استثمارات جديدة في السوق المصري، شريطة توفر مناخ ملائم وعوائد مضمونة. أما من الجانب الآسيوي، وخصوصًا إندونيسيا، فإن الاهتمام ينصب على التعاون في قطاعات التكنولوجيا والصناعات التحويلية، وهو ما قد يمثل فرصة حقيقية لمصر للانخراط في سلاسل القيمة العالمية، إذا ما تم استغلالها بذكاء.
في النهاية، يمكن القول إن مصر تقف اليوم على مفترق طرق. فإما أن تنجح في تحويل هذه التفاهمات السياسية إلى مشروعات استثمارية حقيقية تخلق فرصًا مستدامة، أو أن تبقى رهينة الوعود والتصريحات، في ظل تحديات اقتصادية محلية لم تعد قابلة للتأجيل.