تشير التطورات الأخيرة إلى تحوّل لافت في ديناميكية التفاوض بين حركة “حماس” والولايات المتحدة، في سياق الجهود الحثيثة التي تبذلها كل من قطر ومصر إلى جانب واشنطن، للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة. للمرة الأولى منذ سنوات، تُعقد لقاءات مباشرة بين مسؤولين أميركيين وقياديين في “حماس”، ما يمثل اختراقاً سياسياً قد يُعيد رسم معادلات التعامل مع الحركة، التي كانت لعقود تصنفها واشنطن كـ”منظمة إرهابية”.
اللقاءات التي جرت في الدوحة، حسب المصادر، ضمت مساعداً للمبعوث الأميركي الخاص ستيف ويتكوف، وقياديين في “حماس” من أبرزهم خليل الحية، وهو ما يشير إلى أن الاتصالات لم تكن سطحية، بل شملت وجوهاً بارزة ومؤثرة في اتخاذ القرار داخل الحركة. هذه اللقاءات تأتي في لحظة حرجة، مع ضغط إقليمي ودولي كبير لتحقيق تهدئة قبل زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى المنطقة، وهو ما يضفي بعداً سياسياً استثنائياً على المفاوضات.
هل حماس ترضخ لمطالب أميركا؟
ما يبدو على السطح أن “حماس” لا تتفاوض من موقع قوة كما في جولات سابقة. منذ بدء الحرب في أكتوبر، تعاني الحركة من خسائر فادحة على الصعيدين العسكري واللوجستي، إضافة إلى الضغط الشعبي الداخلي بسبب تفاقم الكارثة الإنسانية في غزة. القطاع يواجه انهياراً شاملاً في الخدمات والبنية التحتية، والمجتمع الدولي لم يعد يحتمل استمرار هذا الوضع دون أفق سياسي. لذلك، يمكن القول إن “حماس” تجد نفسها اليوم مضطرة إلى تقديم تنازلات، بعضها كان محظوراً سابقاً، من أجل الحفاظ على بقائها السياسي وتنظيمها العسكري.
واحدة من أبرز مؤشرات “الانفتاح” التكتيكي لحماس، هو أنباء الإفراج عن رهينة أميركي. هذا النوع من الخطوات لا يُفهم إلا في سياق تقديم “بروفة حسن نية” للولايات المتحدة، ومحاولة فتح قنوات اتصال مباشرة تُخرج الحركة من العزلة الغربية. هنا، لا يمكن تجاهل أن “حماس” تعي تماماً أن شرعيتها في أي تسوية مستقبلية تمرّ عبر قبول ولو جزئي من واشنطن، وأن استمرار الحرب دون دعم دولي لم يعد خياراً قابلاً للاستمرار.
هل هذا تقارب أم لحظة اضطرار؟
ما يجري هو مزيج معقد من الاضطرار والتكتيك. “حماس” لا تقترب من واشنطن حباً في التفاوض، بل لأنها على شفا الانهيار التنظيمي في حال استمرت المعركة بنفس الوتيرة. الحركة تعلم أن الوقت لا يعمل لصالحها، وأن إسرائيل تراهن على إنهاكها بالكامل، لا سيما مع الحصار المشدد وفقدان السيطرة على مناطق واسعة من غزة. ومع غياب الدعم العربي الفاعل، و”فتور” إيران مؤخراً، فإن الحركة تبحث عن أي منفذ يمكن أن يؤدي إلى تهدئة تُبقيها جزءاً من المعادلة السياسية.
لا شك أن “حماس” دفعت أثماناً بشرية ومادية هائلة منذ نشأتها. وافتقدت قراراتها السياسية والعسكرية في السنوات الأخيرة للحسابات الاستراتيجية الدقيقة، بل اعتمدت أحياناً على “رد الفعل” أكثر من الرؤية بعيدة المدى. الدخول في حرب مفتوحة دون استعداد حقيقي للمرحلة التالية، وعدم وجود حلفاء إقليميين يضمنون شبكة أمان للحركة، كل ذلك جعل غزة تدفع أثماناً مضاعفة، من دون مكاسب ملموسة على أرض الواقع.
تدهور الأوضاع المعيشية
أيضاً، “حماس” ما زالت تتعامل بمنطق “الحركة المقاومة” وليس “الكيان الحاكم”، رغم سيطرتها الفعلية على القطاع. وهذا أدى إلى تدهور الأوضاع المعيشية، وتآكل الحاضنة الشعبية التي كانت تشكّل صمام أمان لها. الخطوة نحو التفاوض المباشر مع الأميركيين، إن حصلت بوعي استراتيجي، قد تكون فرصة لإعادة تموضعها في مشهد سياسي جديد، لكن بشرط الاعتراف بمحدودية الخيار العسكري وحده، والانفتاح على أدوات السياسة الواقعية.