في عالم يتقاطع فيه الإعلام والترفيه مع السياسة والواقع اليومي، يبرز مسلسل الكرتون الأمريكي الشهير عائلة سمبسون كحالة فريدة من نوعها. فهو ليس مجرد عرض كوميدي، بل صار في نظر كثيرين مرآة مستقبلية لما هو قادم. من الهواتف الذكية إلى الأوبئة، ومن رؤساء غريبي الأطوار إلى فضائح سياسية، استطاع هذا المسلسل أن يثير جدلاً واسعاً بشأن “تنبؤاته” الغريبة.
لكن هل يمكن أن يصل الأمر إلى ما هو أخطر من ذلك؟ هل بالفعل تنبأ المسلسل باغتيال الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب؟ هذه ليست مزحة… بل سؤال يتداوله الملايين في أرجاء الإنترنت، وسط مقاطع وصور منتشرة تُظهر مشاهد مفترضة توحي بذلك الحدث الدرامي.
فما هي الحقيقة؟ وهل حقًا يمتلك هذا المسلسل قدرة خارقة على التنبؤ؟ أم أننا أمام وهم جماعي صنعتْه ذاكرة الإنترنت؟
الأسطورة الجديدة: “نبوءة اغتيال ترامب”
خلال السنوات القليلة الماضية، تصدرت مواقع التواصل الاجتماعي صوراً ومقاطع فيديو قصيرة قيل إنها مأخوذة من حلقات عُرضت قبل سنوات في عائلة سمبسون، وتُظهر دونالد ترامب ممدداً داخل تابوت، أو لقطات توحي بأنه اغتيل. البعض يصر على أنه رأى الحلقة بنفسه، والبعض الآخر يؤكد أنها حُذفت لاحقًا بسبب “الضغوط السياسية”. لكن عند تفنيد هذه الادعاءات والبحث في أرشيف المسلسل الذي يمتد منذ عام 1989 وحتى اليوم، لا تظهر أي حلقة رسمية تحتوي على مشهد لاغتيال ترامب.
التحقيقات التي أجراها مختصون في فحص الصور والفيديو أظهرت أن معظم هذه المقاطع مفبركة، تم إنشاؤها باستخدام برامج تصميم متقدمة أو الذكاء الاصطناعي، وبعضها كان في الأصل أعمالاً فنية من معجبي المسلسل، نُشرت على منتديات مثل Reddit أو DeviantArt. ومن هنا بدأت دورة التزييف: يتم مشاركة هذه الصور وكأنها لقطات أصلية، فتتضخم الرواية ويبدأ الناس بربط الخيال بالواقع.
لماذا نصدق أن السمبسون يتنبأ فعلاً؟
ما يدفع ملايين الناس لتصديق “نبوءات” هذا المسلسل، هو أن بعضها تحقق فعلاً – وبشكل مذهل. حلقة من عام 2000 أظهرت “ليزا سمبسون” كرئيسة للولايات المتحدة تتحدث عن “الفوضى الاقتصادية التي تركها ترامب بعد رئاسته”، وهو ما بدا نبوءة دقيقة بعد فوزه بالرئاسة عام 2016. كذلك تنبأ المسلسل بأجهزة شبيهة بالهواتف الذكية والساعات الذكية، وبانتشار فيروس قادم من آسيا يثير الهلع، إلى جانب تفاصيل أخرى مثل فضائح تتعلق بفيفا، واستحواذ ديزني على شركة فوكس.
تكرار هذه الصدف خلق انطباعًا بأن المسلسل يملك قدرة خارقة على التنبؤ، وأن ما يسخر منه اليوم قد يصبح واقعًا غدًا. لكن هذا الانطباع تغذيه الذاكرة الانتقائية للعقل البشري، حيث نتذكر “ما تحقق” ونتجاهل العشرات مما لم يحدث.
شخصيات سياسية ظهرت في المسلسل ولم تتحقق تنبؤات عنها
لكن إذا كان المسلسل فعلاً يتنبأ بالمستقبل، فلماذا لم تصدق تنبؤاته بشأن شخصيات أخرى؟ خذ مثلًا:
هيلاري كلينتون، ظهرت في المسلسل في عدة مناسبات، خاصة في فترة الانتخابات. واحدة من الحلقات ألمحت إلى إمكانية فوزها بالرئاسة، لكن النتيجة الحقيقية كانت عكس ذلك تمامًا، حيث خسرت أمام ترامب في 2016. النبوءة؟ لم تصب.
آرنولد شوارزنيغر، تم تصويره في أحد أفلام السلسلة كرئيس للولايات المتحدة. في الواقع، ورغم أنه شغل منصب حاكم كاليفورنيا، لم يُسمح له حتى بالترشح للرئاسة بسبب كونه مولودًا خارج البلاد، ما يجعل هذا “التنبؤ” أشبه بمزحة لم تتحقق.
آل غور، السياسي البيئي المعروف ونائب الرئيس الأمريكي الأسبق، صُوّر في المسلسل كمرشح ناجح ومستقبلي. لكنه خسر انتخابات 2000 أمام جورج بوش الابن، في واحدة من أكثر النتائج إثارة للجدل في التاريخ الأمريكي. لا نبوءة تحققت هنا.
هذه الأمثلة تكشف أن المسلسل يطرح سيناريوهات ساخرة واحتمالات متطرفة، لكنها لا تتحقق كلها. بل إن غالبية ما يُعرض فيه يبقى في دائرة الكوميديا والمبالغة.
نبوءة أم فن التوقع الذكي؟
وراء كواليس عائلة سمبسون يقف فريق من الكتاب والمحررين والمبدعين، كثير منهم من خريجي هارفارد، يمتلكون قدرة هائلة على تحليل الواقع السياسي والاقتصادي والتقني، وصياغته بشكل ساخر وجريء. إنهم لا يتنبأون، بل يسخرون من الاحتمالات الأكثر جنونًا – وهي في بعض الأحيان تصبح واقعًا لأن العالم أصبح لا يقل جنونًا عن الكرتون نفسه.
المسلسل يعتمد على قاعدة بسيطة في الكتابة الساخرة: “خذ الواقع، وادفعه إلى أقصى حد ممكن”. فإذا كان ترامب رجل أعمال مثيرًا للجدل، لماذا لا يصبح رئيسًا؟ وإذا كانت الحكومة فاسدة، فلمَ لا تبيع أسرارها؟ وهكذا. الكثير من هذه السيناريوهات يحدث فعلاً، لا لأن المسلسل تنبأ، بل لأن الحياة أصبحت تقلد الفن، وليس العكس.
الحقيقة: المشهد لم يُعرض قط
رغم انتشار آلاف الصور، لا يوجد أي دليل رسمي من شبكة FOX على أن المسلسل عرض حلقة تحتوي على اغتيال ترامب. كل ما نراه هو محتوى مزيف صُمم ليبدو حقيقيًا، ويُغذّي نظرية المؤامرة التي تُلهب المخيلة الشعبية.
لكنّ ما يكشفه هذا الجدل ليس عن المسلسل نفسه، بل عنّا نحن. نحن من نبحث عن إشارات في الفن لما قد يحدث، نحن من نتعلق بالتفسير السحري للواقع المعقد. ربما لأن الحقيقة صارت أكثر فوضوية من الخيال، فنلجأ إلى رسوم متحركة نحسبها أكثر عقلانية.
التعريفات الجمركية في عهد ترامب: رؤية “عائلة سمبسون” الساخرة
في حلقة من مسلسل “عائلة سمبسون”، تم التطرق بشكل ساخر إلى سياسات الرئيس دونالد ترامب التجارية، خاصة فيما يتعلق بفرض التعريفات الجمركية. تظهر الحلقة مشهدًا يُبرز ترامب وهو يوقع على قرار فرض تعريفات جمركية مرتفعًا، مع تعليق ساخر من هومر سيمبسون: “أعتقد أنه يظن أن التعريفات هي الحل لكل شيء، تمامًا كما أعتقدتُ أن المسدس هو الحل لكل شيء”. هذا المشهد يعكس نقدًا لاذعًا لسياسات ترامب التجارية، مشيرًا إلى أن الاعتماد المفرط على التعريفات الجمركية قد يكون مبالغًا فيه، وأنه قد يؤدي إلى نتائج غير مرغوبة. هذا التناول الساخر يُظهر كيف يستخدم المسلسل الفكاهة لتسليط الضوء على القضايا السياسية والاقتصادية الراهنة.
من يكتب النبوءة؟ السمبسون أم نحن؟
ربما لم يتنبأ عائلة سمبسون باغتيال ترامب. وربما لن يفعل. لكن مجرد تصديقنا لذلك يكشف شيئًا عميقًا: أن الكوميديا في زمننا لم تعد مجرد ترفيه، بل أصبحت منصة لإعادة تفسير الحاضر… وصناعة “نبوءات” لا تأتي من المستقبل، بل من داخل مخاوفنا الأكثر خفية.
ففي النهاية، قد لا يكون السؤال “هل تنبأوا؟”، بل: “لماذا أردنا نحن أن تكون النبوءة حقيقية؟”