ما يحدث في قرية عنزة جنوب جنين ليس مجرد عملية عسكرية عابرة، بل هو جزء من سلوك ممنهج تعتمده سلطات الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية، يقوم على إعادة إنتاج أدوات السيطرة من خلال تحويل المدنيين الفلسطينيين إلى أهداف مباشرة للهيمنة الميدانية والعقابية. اقتحام المنازل بالقوة، وتهجير سكانها دون أوامر قانونية أو مبررات أمنية حقيقية، وتحويل تلك المنازل إلى ثكنات عسكرية، يعكس نموذجًا واضحًا لسياسة الإخضاع وإعادة تشكيل المجال السكاني الفلسطيني على أسس أمنية.
تهجير تحت تهديد السلاح
إجبار 15 عائلة على مغادرة منازلها تحت تهديد السلاح ليس فقط انتهاكًا فاضحًا لاتفاقيات جنيف المتعلقة بحماية المدنيين تحت الاحتلال، بل هو تجسيد حي لتحوّل حياة الفلسطينيين إلى مشهد يومي من الاقتلاع والتهجير. هذه البيوت التي طُرد منها سكانها قسرًا تحوّلت في لحظات إلى مراكز احتلال محصنة، تُدار منها عمليات تفتيش واعتقال واستجواب ميداني وتنكيل، ما يعني أن السكان لا يواجهون فقط فقدان المأوى، بل يعيشون صدمة التهديد المباشر في قلب قراهم.
السؤال المركزي: أين يعيش هؤلاء المواطنون المطرودون؟ في الغالب، وفي ظل غياب أي شبكة إغاثية طارئة، يلجأ هؤلاء إلى أقاربهم أو إلى مبانٍ غير مكتملة أو مرافق عامة مهجورة، أو يبقون في العراء، ما يعرضهم لمخاطر مضاعفة من البرد أو الحر أو القصف أو الانكشاف الأمني. كما أن وجودهم خارج منازلهم لا يترافق بأي حماية أو ضمانات، ما يجعلهم فعليًا “نازحين داخليًا” في أرضهم، ضمن نمط جديد من التهجير الداخلي القسري.
سياسة الردع الجماعي
دلالات هذه العمليات لا تنفصل عن المشهد الكلي في جنين، التي تشهد حملة عسكرية متصاعدة تشمل مداهمات واعتقالات، وتنفيذ عقوبات جماعية بحق السكان. هذا التمدد العسكري في المناطق المدنية يهدف إلى أكثر من مجرد “ملاحقة مطلوبين”، بل يسعى لخلق بيئة طاردة للسكان، ونقل المعركة من المجال الأمني إلى المجال اليومي للمواطن الفلسطيني، ما يعزز سياسة الردع الجماعي ويغذي شعور السكان بالعجز والعزلة.
بشكل أوضح، نحن أمام سياسة ممنهجة لإعادة تعريف العلاقة بين الفلسطيني وأرضه وبيته، من علاقة ملكية وسكن واستقرار، إلى حالة مؤقتة يمكن أن تُلغى في أي لحظة بقرار عسكري. وهو ما يخلق إحساسًا عميقًا بانعدام الأمان، ليس فقط في غزة، بل في عمق الضفة الغربية.
هذه الممارسات يجب ألا تُقرأ فقط باعتبارها تجاوزًا للقانون، بل كمؤشر خطير على تصعيد أمني يتغذى على منطق الإحلال والسيطرة، ويُكرّس واقعًا ميدانيًا يعزل الفلسطيني عن أرضه ويقطع العلاقة المكانية والرمزية بينه وبين بيته، ضمن عملية تهويد غير مباشرة تمتد من المدن إلى القرى والمنازل الخاصة.