مرت اثنتان وعشرون سنة منذ أن شنت الولايات المتحدة وحلفاؤها غزو العراق عام 2003، والذي أدى إلى إسقاط نظام صدام حسين بحجة نشر الديمقراطية وإنهاء الديكتاتورية. لكن بعد أكثر من عقدين، يجد العراق نفسه غارقًا في الفساد، يعاني من انهيار البنية التحتية، ويواجه تحديات في مجالات الصحة والتعليم، ما يجعل الواقع أسوأ مما كان عليه قبل الحرب.
فساد مستشري ونهب مستمر
كان من المفترض أن يكون العراق نموذجًا للديمقراطية والشفافية بعد سقوط النظام السابق، لكن الفساد أصبح العنوان الأبرز للحكومات المتعاقبة، حيث تكرس نهج المحسوبية والرشوة في مؤسسات الدولة، مما أدى إلى هدر هائل للموارد دون تحقيق أي تحسين في مستوى معيشة المواطنين. بات الفساد مستشريًا في القطاعات كافة، بدءًا من المشاريع الوهمية التي تستهلك مليارات الدولارات دون نتائج ملموسة، وصولًا إلى عمليات تهريب النفط ونهب المال العام تحت غطاء المناقصات الحكومية.
رغم امتلاك العراق لثروات نفطية هائلة، إلا أن العوائد لم تترجم إلى نهضة اقتصادية أو خدمات متطورة، بل ظلت تذهب إلى جيوب المسؤولين الفاسدين والشبكات المترابطة من النخب السياسية ورجال الأعمال. ووفقًا لتقارير دولية، فإن العراق يحتل مراتب متقدمة في قوائم الفساد العالمية، حيث يتم تهريب مليارات الدولارات سنويًا إلى الخارج، في حين يبقى المواطن يعاني من البطالة، وتردي الخدمات الأساسية، وتراجع القدرة الشرائية.
بنية تحتية متداعية رغم الميزانيات الضخمة
لم تشهد البنية التحتية في العراق أي تحسن جوهري منذ سقوط النظام السابق، بل أصبحت في حالة أكثر سوءًا، نتيجة للإهمال وسوء التخطيط وسرقة الأموال المخصصة للمشاريع الحيوية. فالكهرباء، التي كانت تُعد مشكلة في العقود الماضية، تحولت إلى أزمة مستمرة رغم إنفاق عشرات المليارات من الدولارات على القطاع. المواطن العراقي لا يزال يعاني من ساعات طويلة من الانقطاع اليومي، بينما تعتمد معظم العائلات على المولدات الأهلية التي تزيد من الأعباء المالية.
أما شبكة الطرق والجسور، فقد أصبحت في حالة متهالكة، حيث لم تشهد أي تطوير حقيقي رغم مرور أكثر من عقدين على تغيير النظام. المدن العراقية، وخاصة تلك التي تعرضت للدمار خلال المعارك مع الإرهاب، لا تزال تنتظر إعادة الإعمار وسط تعثر المشاريع وغياب الرقابة الحقيقية على التنفيذ. كما أن المياه الصالحة للشرب لا تزال غير متوفرة في كثير من المناطق، ما يفاقم معاناة السكان ويدفعهم للاعتماد على حلول مكلفة وغير صحية
نظام تعليمي وصحي في حالة انهيار
كان من المتوقع أن يتحسن قطاعا التعليم والصحة بعد إزالة القيود التي فرضها النظام السابق، لكن الواقع كان عكس ذلك تمامًا. المدارس تعاني من نقص الكوادر والإمكانات، والمناهج الدراسية لم تتطور بما يواكب العصر، مما جعل التعليم في العراق متخلفًا مقارنة بدول الجوار. أما الجامعات العراقية، التي كانت يومًا من بين الأفضل في المنطقة، فقد تراجعت تصنيفاتها بسبب الفساد والمحسوبية وضعف الاستثمار في البحث العلمي.
أما القطاع الصحي، فحالته لا تقل سوءًا، حيث تعاني المستشفيات من نقص الأدوية والمعدات الطبية، ويضطر المرضى إلى السفر إلى الخارج للحصول على العلاج. تفشي الفساد في هذا القطاع أدى إلى تحويل الأموال المخصصة للصحة إلى جيوب الفاسدين، بينما يبقى المواطن العراقي يعاني من تردي الخدمات الصحية.
غياب الأمن والاستقرار
رغم مرور 22 سنة على إسقاط النظام السابق، لا يزال العراق يعيش حالة من عدم الاستقرار الأمني، حيث أصبحت الميليشيات المسلحة والجماعات الإرهابية جزءًا من المشهد السياسي والأمني، مما يجعل فرض سلطة الدولة أمرًا شبه مستحيل. الفجوة بين الحكومة والمجتمع تعمقت بسبب عدم قدرة السلطات على احتواء النزاعات، واستمرار الخلافات السياسية التي تعيق بناء مؤسسة أمنية قوية.
رغم إعلان القضاء على داعش عسكريًا، فإن التنظيم لا يزال يمثل تهديدًا كامنًا، حيث يستغل الفراغات الأمنية وضعف التنسيق بين القوات العراقية. كما أن الصراعات الداخلية بين الأحزاب والميليشيات المدعومة خارجيًا تعزز حالة الفوضى، ما يجعل مستقبل الأمن في العراق مرهونًا بقدرة الحكومة على استعادة السيطرة وبناء مؤسسات أمنية قادرة على مواجهة التحديات المتغيرة.
العراق إلى أين؟
بعد أكثر من عقدين على الغزو الأمريكي، تحول العراق إلى نموذج لدولة تعاني من الفوضى والفساد بدلاً من أن يكون نموذجًا ديمقراطيًا مزدهرًا كما كان يُروج له. لا تزال النخب السياسية تسيطر على السلطة دون تقديم حلول حقيقية لمعاناة المواطنين، فيما يتم استغلال موارد البلاد لمصالح فئوية ضيقة بدلًا من استثمارها في تنمية مستدامة.
التغيير في العراق لن يكون سهلًا، لكنه ممكن. يعتمد الأمر على مدى قدرة العراقيين على تجاوز الانقسامات الطائفية والعرقية، والمطالبة بإصلاحات جذرية تعيد بناء الدولة على أسس العدالة والمواطنة، بعيدًا عن المحاصصة السياسية التي أثبتت فشلها. بغير ذلك، سيبقى العراق عالقًا في دوامة الأزمات، شاهدًا على فشل التدخلات الأجنبية ووعود الديمقراطية التي لم تتحقق.