تعكس الأوضاع التي يعيشها الأسرى الفلسطينيون داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي، وخاصة أسرى قطاع غزة، مرحلة غير مسبوقة من التدهور الإنساني والانتهاكات الممنهجة، التي ترقى في كثير من جوانبها إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية، إن لم تكن أعمال إبادة صريحة تجري تحت غطاء الصمت الدولي وتواطؤ المنظومة الحقوقية العالمية.
الإعلان عن استشهاد ثلاثة أسرى جدد من قطاع غزة، وغياب التفاصيل حول ظروف استشهادهم، يسلط الضوء على طبيعة الانتهاكات المركبة التي تمارس بحق المعتقلين، والبيئة العقابية التي تحولت إلى نظام متكامل للقتل البطيء داخل سجون ومعسكرات الاحتلال.
تعذيب ممنهج
الانتهاكات التي توثقها المؤسسات الحقوقية الفلسطينية، وعلى رأسها هيئة شؤون الأسرى، ونادي الأسير، ومؤسسة الضمير، تشير إلى تعذيب ممنهج، تجويع متعمد، إهمال طبي قاتل، واعتداءات جسدية وجنسية، تصاحبها ظروف احتجاز قاسية، تفتقر إلى الحد الأدنى من مقومات الكرامة الإنسانية.
وتبدو هذه الممارسات جزءاً من سياسة عقابية جماعية مدروسة، تستهدف كسر إرادة المعتقلين والتنكيل بهم، خصوصاً أسرى غزة الذين وُصفوا بأنهم يتعرضون لأقسى أشكال التعذيب والمعاملة المهينة، فيما يتم تصنيفهم في كثير من الأحيان كمقاتلين غير شرعيين، بما يفتح الباب أمام حرمانهم من أي حماية قانونية بموجب القانون الدولي الإنساني.
ما يزيد من فداحة الوضع هو تقاعس المجتمع الدولي عن اتخاذ أي إجراء فاعل أمام تصاعد الجرائم بحق الأسرى. فالإفادات المتواترة حول التعذيب والقتل والإهمال الطبي، والتي وصلت إلى ذروتها منذ بدء العدوان على غزة، لم تواكبها تحركات ملموسة من قبل المنظمات الحقوقية الدولية أو الأمم المتحدة، بل ظل التعامل معها في إطار البيانات المتحفظة والمواقف الرمزية، ما ساهم في تعزيز شعور الاحتلال الإسرائيلي بالحصانة من المساءلة والعقاب. هذه الحالة من العجز الدولي لم تعد فقط إهانة لمبادئ حقوق الإنسان، بل تحولت إلى غطاء فعلي لاستمرار الانتهاكات، ومشاركة غير مباشرة في جرائم الحرب.
استمرار اعتقال الأسرى المحررين
العدد المتزايد من الشهداء داخل السجون، لا سيما ممن تم اعتقالهم بعد 7 أكتوبر 2023، يكشف عن تحول السجون إلى ساحات قتل ممنهج، وليس فقط أماكن احتجاز. والجدير بالذكر أن العديد من هؤلاء الأسرى استشهدوا بعد أيام أو أسابيع من اعتقالهم، ما يدل على تعرضهم لعمليات تعذيب جسدي شديد، دون وجود أي رقابة أو إمكانية للوصول إلى محامين أو منظمات محايدة للتحقق من ظروف احتجازهم.
واحدة من أبرز الإشارات على خرق الاحتلال للقانون الدولي تكمن في استمرار اعتقال الأسرى المحررين، وهو خرق واضح لما تنص عليه اتفاقيات جنيف والمواثيق الدولية التي تحظر إعادة اعتقال أشخاص أفرج عنهم ضمن اتفاقات سابقة أو بموجب قرارات قضائية أو سياسية. هذا السلوك يكرس مفهوم الانتقام السياسي ويقوّض أي أفق للمصالحة أو الحلول السلمية، كما يضع الاحتلال في مواجهة مباشرة مع التزاماته الدولية التي طالما تهرب منها.
طمس الحقائق
كذلك، فإن استمرار إخفاء أسماء بعض الشهداء من معتقلي غزة، ورفض الكشف عن مصيرهم أو تسليم جثامينهم، يدخل ضمن سياسات الإخفاء القسري، وهي جريمة موصوفة بموجب القانون الدولي، وتدل على نية مبيتة لدى سلطات الاحتلال لطمس الحقائق وإخفاء الأدلة المتعلقة بجرائمها داخل المعتقلات.
وفي ظل تجاوز عدد المعتقلين حاجز العشرة آلاف أسير، بينهم نساء وأطفال ومئات المعتقلين الإداريين دون تهم، فإن الوضع لم يعد يندرج فقط ضمن انتهاكات حقوقية أو تجاوزات قانونية، بل بات يمثل منظومة قمع ممنهجة، تستخدم فيها إسرائيل السجون كأداة لإخضاع الفلسطينيين، عبر انتهاك ممنهج لكل الأعراف والمواثيق، في ظل صمت دولي أقرب إلى التواطؤ.
مواجهة آلة قمع متوحشة
المؤسسات الفلسطينية المعنية بمتابعة أوضاع الأسرى أطلقت صرخة استغاثة للمجتمع الدولي، مطالبة بتحقيق دولي عاجل ومحايد، وفرض عقوبات رادعة على الاحتلال، إلا أن ردود الفعل ما زالت بعيدة كل البعد عن حجم المأساة. ويبدو أن ازدواجية المعايير، وتغليب المصالح السياسية للدول الكبرى، قد أفرغا القانون الدولي من محتواه، ما جعل دولة الاحتلال تتصرف كأنها فوق القانون، لا تخشى المساءلة ولا تخضع لأي ضغوط حقوقية حقيقية.
واقع الأسرى الفلسطينيين اليوم، وخاصة معتقلي غزة، يمثل وصمة عار على جبين المجتمع الدولي، ويكشف عن خلل بنيوي في النظام الحقوقي العالمي، الذي يفشل أمام اختبار العدالة عندما يتعلق الأمر بفلسطين، ويترك الضحايا في مواجهة آلة قمع متوحشة لا تتورع عن استخدام كل الوسائل، بما فيها القتل المباشر أو البطيء، لقمع إرادة شعب يسعى للحرية.