استهداف الصحافيين في غزة على النحو الذي يجري منذ السابع من أكتوبر 2023 لم يعد يبدو عرضيًا أو استثنائيًا، بل يشير إلى نهج ممنهج يسعى إلى تغييب الصورة، ومنع نقل الحقيقة من ساحات القصف والمجازر. استشهاد خمسة صحافيين في يوم واحد، وارتفاع حصيلة الشهداء من الإعلاميين إلى 221، يكشف عن حجم الاستهداف المباشر لوسائل الإعلام والعاملين فيها، سواء أثناء التغطية الميدانية أو وهم في منازلهم مع عائلاتهم.
استهداف الصحافيين جريمة حرب
الصحافي الفلسطيني اليوم لا يحمل الكاميرا فقط، بل يُنظر إليه كمصدر تهديد في نظر الاحتلال، لأنه يوثق، ويشهد، وينقل الجرائم للعالم. لهذا، يتحول إلى هدف. معظم من استُشهدوا لم يكونوا في ساحات الاشتباك، بل قُصفوا وهم داخل بيوتهم، كما حدث مع الصحفية نور قنديل وزوجها وابنتهما، أو المصور عزيز الحجار وعائلته. هذه الاستهدافات لا يمكن تفسيرها إلا كمحاولة لطمس الرواية الفلسطينية، ومنع المجتمع الدولي من رؤية الواقع بعيون أبنائه.
القانون الدولي الإنساني واضح في هذا الشأن. وفقًا للبروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف (المادة 79)، يتمتع الصحافيون الذين يؤدون مهماتهم المهنية في مناطق النزاع بالحماية ذاتها التي تُمنح للمدنيين، ولا يجوز اعتبارهم أهدافًا عسكرية ما لم يشاركوا مباشرة في القتال. ومن حيث المبدأ، فإن أي استهداف متعمد لصحافي مدني يشكل جريمة حرب يمكن ملاحقتها أمام المحكمة الجنائية الدولية.
رفع الحصانة عن إسرائيل
لكن رغم وضوح النصوص القانونية، تبقى الآليات الدولية عاجزة أمام حالة الإفلات المستمر من العقاب الذي تتمتع به إسرائيل، حيث لم يُفتح تحقيق جدي واحد بشأن مقتل صحافي فلسطيني، ولا فُرضت مساءلة على أي قائد عسكري أو سياسي إسرائيلي.
لحماية الصحافيين، لا يكفي الاعتماد على القانون وحده، بل يجب تفعيل منظومة حماية متعددة المستويات. أولًا، عبر تسجيل وتوثيق كل الانتهاكات بشكل مهني وشفاف، وتقديم ملفات قانونية مدروسة إلى المحكمة الجنائية الدولية والهيئات الأممية المختصة. ثانيًا، من الضروري ممارسة ضغط دولي من قبل نقابات الصحافيين العالمية والمؤسسات الحقوقية الكبرى لفرض محاسبة سياسية وقانونية، ورفع الحصانة غير المعلنة عن إسرائيل.
ضحية صُناع الجريمة
كما يجب تفعيل أدوات الحماية الرقمية والميدانية للصحافيين، من خلال دعمهم بالخوذ والسترات الواقية المخصصة للصحافة، وتعزيز التنسيق مع المؤسسات الدولية لتحديد هويات الصحافيين بشكل لا يتيح التشكيك في مهنتهم أو الصاق تهم باطلة بهم. كذلك، يمكن إنشاء آلية دولية عاجلة، تحت مظلة الأمم المتحدة أو لجنة دولية مستقلة، لرصد الجرائم ضد الصحافيين في غزة وتقديم توصيات تنفيذية ملزمة.
ما يجري في غزة ليس فقط مجزرة بشرية، بل مجزرة للرواية الفلسطينية، تُنفذ بأدوات عسكرية ضد الكلمة والصورة والصوت. وفي غياب حماية حقيقية، يتحول الصحافي من ناقل للخبر إلى ضحية لصناع الجريمة، ويفقد العالم بوصلته الأخلاقية حين يُقتل شهود الحقيقة بصمت.