الأوضاع داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي تشهد منذ بدء الحرب على غزة تصعيداً غير مسبوق في الانتهاكات، بلغت حداً يقترب من سياسة تصفية جسدية ونفسية ممنهجة لرموز الحركة الأسيرة وقياداتها، ضمن إطار أوسع من القمع الشامل الذي يستهدف كل من تبقى حياً في معركة الصمود الفلسطيني.
ما يجري داخل الزنازين لم يعد فقط تجاوزاً للقانون الدولي أو خرقاً لحقوق الإنسان، بل تحول إلى ممارسة عدائية منظمة، تُنفذ بإشراف أجهزة الاحتلال المختلفة، وتستخدم فيها أدوات قمع لا تُستخدم عادة حتى ضد أسرى الحرب وفق المعايير الدولية.
أساليب الأنظمة القمعية
ما تكشفه المؤسسات الحقوقية الفلسطينية من تفاصيل مرعبة عن استخدام الهراوات، والكلاب البوليسية المزودة بخوذ معدنية، والتعذيب حتى نزيف الدم، والتجويع الممنهج الذي يؤدي إلى الهزال وسقوط الوزن، يعيد إلى الأذهان أساليب الأنظمة القمعية التاريخية التي ارتكبت فظائع بحق المعتقلين السياسيين، لكن هذه المرة يجري ذلك تحت علم دولة تدّعي الديمقراطية وتُمنح حصانة دولية غير مسبوقة.
تصفية القيادات الأسيرة، عبر العزل الانفرادي المتواصل والحرمان من النوم والتغذية والرعاية الطبية، ليست إجراءات تأديبية كما تروج سلطات الاحتلال، بل محاولة متعمدة لتحطيم البنية التنظيمية للحركة الأسيرة، والتي لطالما كانت خط الدفاع الأول عن كرامة الحركة الوطنية داخل السجون. هذه السياسة، التي تشتد كلما ارتفعت وتيرة العدوان خارج السجن، تشير إلى استخدام السجون كجبهة خلفية للتنكيل والانتقام لا تقل أهمية عن ميدان الحرب في غزة أو الضفة.
اعتقال عشوائي
المعادلة التي يفرضها الاحتلال الآن أن كل أسير هو هدف مشروع، وكل سجين هو امتداد لـ”العدو”، بغض النظر عن حقوقه أو وضعه القانوني. هذا التوحّش يتجلى أيضاً في استمرار الاعتقالات الجماعية، حتى للأطفال، إذ يتجاوز عدد المعتقلين حالياً 10 آلاف، بينهم أكثر من 400 طفل، وقرابة 3600 معتقل إداري دون تهمة أو محاكمة، ما يُعزز الطابع الكولونيالي لإدارة الاحتلال، التي لا ترى في الفلسطيني فردًا له حقوق، بل تهديدًا ينبغي تحييده بأي وسيلة.
في ظل هذا المشهد، تبدو ردود الفعل الدولية باهتة وهامشية، ما يسمح باستمرار حالة الحصانة الإسرائيلية، ويُضعف من هيبة القانون الدولي. الصمت، أو الاكتفاء ببيانات الشجب، لم يعد مقبولًا. ما يجري داخل السجون يتطلب تحركًا فعليًا: إرسال لجان تحقيق، فرض عقوبات، وتفعيل أدوات القانون الدولي لمعاقبة المسؤولين عن الانتهاكات.
انهيار الأخلاقي والسياسي
مع استشهاد 69 أسيرًا موثقًا منذ بدء العدوان، ووجود آخرين لم يُعلن عن هوياتهم، يدخل ملف الأسرى مرحلة جديدة، أكثر دموية ووحشية. الأرقام وحدها لا تنقل الحقيقة، لكنها تكشف حجم الانهيار الأخلاقي والسياسي للنظام الذي يدير هذه المعتقلات. إنها معركة وجود تخوضها أجساد مرهقة، لكنها ترفض الانكسار، تمامًا كما يرفض شعبهم خارج السجون أن يُدفن تحت الركام بصمت.
إنقاذ ما تبقى من الكرامة الإنسانية داخل سجون الاحتلال لم يعد مهمة المؤسسات الفلسطينية وحدها، بل هو اختبار حقيقي للمجتمع الدولي: إما أن يُعيد الاعتبار للعدالة، أو يُقر ضمنيًا بانهيار النظام الأخلاقي الذي يُفترض أن يحكم العالم.