في صباح السابع من ديسمبر 2023، كان عمرو حاتم عودة، الرجل الثلاثيني من سكان غزة، يستعد ليوم آخر من أيام الحرب، يوم لا يختلف كثيرًا عما سبقه: قصف متواصل، خوف عالق في زوايا البيت، وأطفاله الثلاثة ينامون قربه كمن يبحث عن أمان غير موجود. لم يكن يتخيل أن هذا اليوم سيكون الأخير الذي يرى فيه وجه زوجته، أو يسمع فيه ضحكات أطفاله.
عندما اقتحم الجنود الإسرائيليون المنطقة، لم يكن لعمرو خيار. لم يكن يحمل سلاحًا، لم يقاوم، لكنه اقتيد مع عائلته خارج المنزل، حيث فُصل عن زوجته وأطفاله، ولم يُسمع عنه شيء بعدها. ذاب اسمه في سيل المعتقلين القادمين من غزة، أولئك الذين غُيّبوا في معسكرات مغلقة لا رقابة عليها، ولا كاميرات توثق ما يحدث فيها، سوى أجساد المعتقلين العائدة إما مكسورة، أو ملفوفة بالأكفان.
معسكر الرعب والتعذيب
اقتيد عمرو إلى معسكر “سديه تيمان”، المكان الذي تحوّل إلى رمز للخوف والرعب في ذاكرة الغزيين. لم يكن معسكرًا بالمعنى التنظيمي، بل كان أقرب إلى ثقب أسود للإنسانية. هناك، بحسب شهادات من نجا من ذلك الجحيم، تعرض المعتقلون للضرب المبرح، والإهانات اليومية، والتجويع، والحرمان من النوم، والعلاج، والماء. كان الجسد يُعاقَب على كونه غزيًا، على كونه فلسطينيًا فقط.
عمرو لم يكن مقاتلًا، لم يحمل بندقية، بل كان أبًا يعيل أسرته، يركض في الحياة مثل غيره من الفلسطينيين، بحثًا عن قليل من الأمان وسط الحرب. لكنه في “سديه تيمان”، لم يكن أبًا، ولا إنسانًا، بل مجرد رقم في قائمة الاعتقال. هناك، حُرم من الطعام، من الاستحمام، من النوم، ومن الحياة نفسها. التعذيب لم يكن لانتزاع اعتراف، بل كان سياسة. سياسة هدفها سحق كرامة المعتقل، وكيّ ذاكرته، وإنهاكه حتى الموت.
أبناء الشهيد: بابا راجع امته؟
ورغم كل ما تعرض له، لم يُمنح عمرو فرصة أن يُروى ما عاشه. لم يخرج ليحكي. خرج جثمانًا، بصمت. استشهد، بعد ستة أيام فقط من اعتقاله، في معسكر يديره جيش احتلال مدجج بالقوة، ويخلو من الرحمة. لم يُعلَن سبب الوفاة رسميًا، ولم تُسلَّم جثته لعائلته، ولم يُعرف كيف قضى ساعاته الأخيرة. لكن زملاءه الذين خرجوا بعده، أخبروا عن أناس سقطوا وهم مقيدو الأيدي، عن أجساد امتلأت بالكدمات، عن آهات لم يردّ عليها أحد، عن صرخات لم يسمعها العالم.
اليوم، زوجته لا تملك سوى صوته القديم في ذاكرة الهاتف، صورته المعلقة على الحائط، وثلاثة أطفال لا يفهمون معنى الموت، لكنهم يسألون كل مساء: “متى يرجع بابا؟”. لا يعرفون أن والدهم رحل في صمت، في مكان لم يُعرف فيه العدل يومًا، وأنه واحد من عشرات ارتقوا داخل زنازين التعذيب، دون تهمة، دون محاكمة، ودون أن يعرفوا حتى لماذا هم هناك.
قتل بالتجويع والصمت الدولي
قصة عمرو ليست استثناءً. لكنها مرآة لمرحلة سوداء من التاريخ، يعيش فيها الفلسطيني الموت على كل الجبهات، حتى وهو مقيد في سجن لا يرى فيه النور. وعمرو، وإن غاب، فإن حكايته باقية، شاهدة على أن الاحتلال لا يقتل فقط بالقصف، بل بالتجويع، بالتعذيب، وبالصمت العالمي الذي يمده بالقوة كل يوم.