لم تكن تعلم أم محمد أن اللحظة التي طالما انتظرتها منذ تسعة أشهر، لحظة ولادة طفلها، ستكون أيضًا لحظة وداعه. كانت تحت القصف، في مستشفى منهك بالكاد تعمل فيه الأجهزة، حين وضعت مولودها. أسمته آدم. صرخ صرخته الأولى، ثم ساد الصمت.
حاول الطبيب المناوب أن يبتسم، رغم أنه يعرف أن الحاضنات متوقفة منذ أيام، وأن الكهرباء مقطوعة معظم الوقت، وأن الأكسجين شحيح، وأن آدم جاء في وقت لم يعد فيه شيء مضمون، لا الدواء، ولا الحياة، ولا حتى فرصة الاحتضان الأولى.
صوت الإنذار الأخير
وضعوه في حضنها لدقائق. تلمسته كما تفعل كل أم، لكن يدها كانت ترتجف، ليس من البرد، بل من الخوف. الخارج جحيم، والمشفى ليس مأمنًا. كل من حولها كانوا إما جرحى أو أمهات يُنقل إليهن أطفالهن صامتين، ملفوفين بالقماش الأبيض. كانت تحاول أن تقنع نفسها أن آدم سيبقى، أنه سيُكتب له عمرٌ، حتى لو تحت الحصار.
لكن بعد ثلاث ساعات فقط، انقطع التيار تمامًا. بدأ الجهاز يصدر صوت الإنذار الأخير، ثم توقف. اقترب الطبيب، وضع يده الصغيرة بين يديه، ثم هز رأسه بأسى. لم يكن يحتاج إلى قول شيء.
مات آدم. ومات معه حلم أم محمد بضحكته، بخطواته الأولى، بحقيبته المدرسية، بأغنياته الصغيرة، بموعده الأول مع الحياة. وخرجت الأم من المشفى وهي لا تحمل إلا بطانية صغيرة واسمًا اختارته على أمل أن تحمله الحياة.
صرخة ضد الظلم
في بيت آخر، لم تكن سارة محظوظة حتى مثل أم محمد. كانت تختبئ مع زوجها وطفلها الذي لم يولد بعد في أحد أركان بيتهم شرق غزة. صاروخٌ سقط فجأة، لم يُمهلهم. استُخرج جسدها بعد ساعات، وإلى جانبها ابنها الذي لم يكمل شهوره التسعة، خرج إلى العالم شهيدًا، دون حتى أن يُسجل في دفاتر الميلاد.
هؤلاء الأطفال الذين وُلدوا وماتوا في لحظة، لم يكونوا مجرد أرقام. كانوا صرخة ضد الظلم، ضوءًا خاطفًا في ليل غزة الطويل. كل طفل منهم كان حياة كاملة، فرصة ضائعة، مستقبلًا قُتل قبل أن يبدأ، حلمًا كتبته أمٌ على بطنها المتعب، ثم مسحته القذائف دون رحمة.
الحياة قصيرة غزة
343 طفلًا من هذا النوع، أبصروا النور في الجحيم، ثم غابوا عنه بعد دقائق أو ساعات أو أيام قليلة. منهم من قُصف، ومنهم من مات بردًا أو جوعًا أو انتظارًا لعلاج لم يصل أبدًا. أرواح لم يُمنح لها الوقت لتتنفس الحياة، ولا حتى لتُدرَج أسماؤهم في دفاتر المدرسة، ولا لتُعلق صورهم في غرف النوم.
في غزة، الحياة قصيرة. أقصر من صرخة، أقصر من ابتسامة أم. أطفال يولدون وهم يعرفون – دون أن يدركوا – أن العالم قد قرر ألا يمنحهم فرصة. وأن الاحتلال، فوق كل شيء، يقتل ليس فقط من يعيش، بل حتى من يُولد.