تدمير إسرائيل الممنهج لمصادر وشبكات المياه في قطاع غزة لا يمكن اعتباره مجرد أضرار جانبية أو نتائج عرضية للحرب، بل هو تنفيذ واضح ومقصود لسياسة تعطيش ممنهجة تهدف إلى تهجير سكان القطاع ودفعهم قسراً إلى مغادرة أراضيهم. هذا الاستهداف يتجاوز الأهداف العسكرية، ويضرب مباشرة في البنية التحتية الحيوية التي يعتمد عليها أكثر من مليوني إنسان من أجل البقاء.
إجبار السكان على النزوح الجماعي
تدمير 85% من مصادر المياه، بحسب تصريحات منذر سالم مدير عام مصادر المياه في قطاع غزة، يمثل انهياراً شبه كامل لنظام الحياة اليومية في القطاع. فالخزان الجوفي، الذي كان يعاني أصلاً من الاستنزاف قبل الحرب، لم يعد قادراً على تأمين الحد الأدنى من الاحتياج، ومع تدمير آبار المياه ومحطات التحلية ومنع إمدادات المياه من شركة “ميكروت” الإسرائيلية، وجدت غزة نفسها بلا مصادر فعلية للمياه الصالحة للاستهلاك.
ما يجري في الواقع هو فرض حصار مائي حقيقي، تتكامل عناصره مع الحصار الغذائي والصحي، ويترافق مع تدمير منظّم للطاقة والبنى التحتية. لا يمكن فهم هذا السلوك إلا ضمن إطار أوسع يهدف إلى جعل القطاع غير صالح للحياة، وخلق بيئة طاردة تدفع السكان إلى النزوح الجماعي. وقد سبق لمسؤولين في الحكومة الإسرائيلية، وإن بعبارات غير مباشرة، أن ألمحوا إلى ضرورة تقليص عدد السكان في غزة أو “نقلهم” إلى أماكن أخرى، ما يُعطي لهذا السلوك بعداً استراتيجياً يتجاوز الظرف الحربي.
انهيار النظام الصحي
الاعتماد على محطات التحلية لم يكن يوماً كافياً، حيث كانت تغطي فقط 10% من احتياجات السكان، ومع ارتفاع كلفة التشغيل وتدمير منظومات الطاقة اللازمة لها، بات من شبه المستحيل الاعتماد عليها كمصدر ثابت. كما أن الحفر العشوائي لآبار منزلية، أو إصلاح الآبار المتضررة، لا يفي بالغرض ويجري في ظل ظروف بالغة الخطورة وغياب للمواد الأساسية.
النتيجة الطبيعية لهذا الانهيار هي تفشي الأمراض بسبب تلوث المياه، وتكالب مئات المواطنين على مصادر مائية محدودة وسط غياب أدوات النظافة والتخزين الآمن. ومع تراكم النفايات وتسرّبها إلى مصادر المياه، تتحول كل نقطة ماء إلى ناقل محتمل للأمراض المعوية وغيرها من الأوبئة، في ظل نظام صحي هو الآخر على شفا الانهيار.
جريمة حرب مكتملة الأركان
ما يحدث ليس فقط عقاباً جماعياً، بل تنفيذ فعلي لمخطط تهجير بطيء عبر تفكيك شروط الحياة. فالماء، كعنصر أساسي للبقاء، يُحوّل من حق إنساني إلى سلاح حرب. وإسرائيل، من خلال تدميرها للآبار وخطوط النقل ومحطات الضخ وخزانات المياه، تمارس شكلاً من أشكال التطهير العرقي البطيء، حيث يتم دفع السكان نحو خيارين لا ثالث لهما: البقاء في الجحيم أو الرحيل.
هذا السلوك يشكّل جريمة حرب مكتملة الأركان، وفق القانون الدولي الإنساني، ويستدعي تحركاً دولياً عاجلاً لا فقط من أجل إيصال المساعدات، بل لمساءلة إسرائيل ومحاسبتها أمام المحاكم الدولية على استهدافها المتعمد للبنية التحتية المدنية، وعلى رأسها المياه، في سياق واضح من سياسات العقاب الجماعي والترحيل القسري. وفي حال استمرار الصمت الدولي، فإن هذا النمط من الحصار سيتحول إلى نموذج لتفكيك المجتمعات المقاومة من خلال سلبها أبسط مقومات العيش.