في بلدة بورين جنوب نابلس، كان المزارع أبو عادل يقف على تلة تُشرف على أرضه التي ورثها عن والده، والتي لطالما كانت مصدر رزقه الوحيد. بنبرة مشوبة بالغضب والمرارة، قال: “الأرض إلها حكايات عمرها مية سنة… فجأة بيجوا بقرار من الجيش بيقولوا ممنوع تدخل، هاي منطقة عسكرية. بيحطوا برج، وبنصّبوا جنود، وبيصير ممنوع عليّ أزرع زيتون أو حتى أمشي فيها.”
حصار الاحتلال للأراضي
في حوارة، تقف أم علاء على سطح منزلها، تنظر إلى السور الحديدي الذي بدأ يلتف حول بيتهم، كما لو أن سكيناً تلتف حول عنقها. تقول بحزن واضح: “حاصرونا بسياج، وحطّوا بوابة على باب الدار. صرت أستأذن حتى أطلع أرمي الزبالة. كل يوم أشوف الجنود والمستوطنين، وأنا مش عارفة ابني يرجع سالم من المدرسة ولا لأ. هالحصار مو بس على الأرض، حصار على الحياة كلها.”
أما في قرية جيت، كان الحاج خليل، صاحب الأرض التي صادرها الاحتلال لصالح “حفات جلعاد”، يسير بخطى متثاقلة بين الحجارة، يشير بيده المرتجفة إلى حيث كانت أرضه الخضراء. “هاي الأرض ربيتها متل ولادي… اليوم بقولوا منطقة أمنية! المستوطنين بيزرعوا فيها، وأنا ممنوع أقرب، ممنوع أتنفس. شو ظل إلنا؟”
قهر أصحاب الأرض
وفي عورتا، لا تزال سكينة، المعلمة المتقاعدة، تذكر جيداً الطريق الذي كانت تسلكه يومياً للوصول إلى المدرسة. اليوم، تقول وهي تشير إلى منطقة “ثلث عبد الله”: “بداوا يشقوا طريق أمني للجيش، يعني بكره ممنوع حدا يمر، الطريق الوحيد اللي بيوصلنا بنابلس رح يُغلق. بنتي حامل، ولو احتاجت مستشفى، كيف بدنا نوصل؟”
في بيتا، التي أصبحت رمزاً للمقاومة الشعبية، يقف الشاب يزن وسط ركام من الحجارة التي استخدمها هو وأصدقاؤه لبناء سواتر ترابية على أطراف جبل صبيح. “كل فترة بيجوا بأمر عسكري جديد، منطقة عازلة، منطقة أمنية، برج مراقبة… كأنهم بيقصّوا أوصال القرية. ما عاد إلنا غير نطلع نصرخ، نوقف قدام الجرافات بإيدينا.”
سرقة الذاكرة والكرامة
وفي دير شرف، عند أطراف بوابة “شافي شومرون”، يُقيم الحاج ناصر، رجل ستيني، على بعد أمتار من الأرض التي نُهبت منه قبل أيام. يقول وهو ينفث دخان سيجارته: “أربعة دونمات سلبوها عشان برج! برج بيراقبني وأنا بأكل، وأنا بنام، وأنا بحاول أنسى وجع البلد.”
الروايات من الضفة الغربية لا تحتاج إلى زخرفة لغوية أو تضخيم، فالحقائق وحدها تُكلم الحجر. الاحتلال لا يقتصر على قضم الأرض، بل يمتد لسرقة الذاكرة والكرامة والمستقبل. كل قرار عسكري هو بمثابة إعلان حرب على الحياة اليومية للفلسطينيين، حيث لا شيء يبقى على حاله: لا الطريق، ولا الحقل، ولا البيت، ولا حتى الأمل.