في الضفة الغربية المحتلة، تتجلى المأساة الفلسطينية اليومية في سلسلة لا تتوقف من الانتهاكات الإسرائيلية التي تنفذها قوات الاحتلال والمستوطنون، ضمن سياسة ممنهجة لتجريف الأرض وسحق الوجود الفلسطيني، حجراً وبشراً. فالاقتحامات التي تنفذها القوات الإسرائيلية في المدن والبلدات الفلسطينية لم تعد استثناءً، بل أصبحت روتيناً مرعباً يتكرر كل ليلة، حيث تتقاطع بنادق الجنود مع قنابل الغاز وصراخ الأطفال ودماء الشهداء.
عقاب جماعي
ما شهدته نابلس مؤخراً من اقتحام بأكثر من 40 آلية عسكرية، وتطويق لمنازل وتفجيرها، يشير إلى تصعيد غير مسبوق في أسلوب “العقاب الجماعي”، تحت غطاء قانوني هشّ، وفي غياب أي مساءلة دولية. فهدم منزل الشهيد جعفر منى، واعتقال شبان من بلدة بيت إيبا، وفتح النار على المركبات في أودلا، كلها أشكال من إرهاب الدولة، يُراد بها أن يُحاصر الفلسطيني داخل بيته وخارجه، جسداً وروحاً.
في بيت لحم والقدس ورام الله وأريحا، تتكرر الصورة ذاتها: اقتحامات، مواجهات، إصابات، رعب يسكن الأزقة الضيقة والبيوت القديمة. في بلدة تقوع، واجه الشبان الرصاص الحي بالقنابل الصوتية التي ارتدت عليهم، بينما تحوّلت سماء القدس إلى غيوم من الغاز، وعمّ الهلع أحياء بأكملها. كل ذلك يحدث في ظل “صمت العالم”، الذي يبدو وكأنه اعتاد على مشاهد الجنود وهم يسحبون شاباً من منزله، أو امرأة تصرخ من هول القنابل في منتصف الليل.
خنق الحياة وتدمير الاقتصاد القائم على الأرض
لكن الوجه الآخر للعدوان، وربما الأشد خطورة، هو ما يقوم به المستوطنون من انتهاكات واعتداءات مباشرة، بحماية من الجيش الإسرائيلي. ففي المُغيّر، لم يكن الهجوم على حقول القمح مجرد جريمة بيئية، بل محاولة خبيثة لخنق الحياة، وتدمير الاقتصاد القائم على الأرض، تمهيداً لاقتلاع السكان. وفي العوجا، حيث استُهدفت أنابيب المياه، يتجلى بوضوح الهدف الاستيطاني: تفريغ الأرض من سكانها البدو وحرمانهم من أبسط مقومات البقاء.
الاحتلال لم يكتفِ بالرصاص والاعتقال، بل بات يمارس نوعاً من الترهيب الممنهج عبر توزيع منشورات تهديدية، وإقامة حواجز تقطّع أوصال القرى، وتحويل المنازل إلى ثكنات عسكرية، كما حصل في قرية زيتا. وهذا النمط لا يُفهم إلا ضمن رؤية سياسية أوسع تسعى إلى فرض وقائع على الأرض، وتجهيز الضفة الغربية لمشروع “ضم ناعم”، تُزال فيه ملامح السيادة الفلسطينية قطعةً قطعة.
تدمير مقومات الحياة
الأرقام مرعبة: أكثر من 972 شهيداً في الضفة منذ أكتوبر 2023، وأكثر من 17 ألف معتقل، بينما تشهد القرى والبلدات حصاراً داخلياً يتجاوز الاحتلال العسكري إلى تدمير مقومات الحياة اليومية.
ولعل الأخطر أن هذه المأساة في الضفة الغربية تجري بالتوازي مع الحرب المفتوحة على قطاع غزة، وكأن الاحتلال يخوض معركتين في آنٍ واحد، ضد شعب واحد، لتقويض حلمه في الحياة والحرية. لكن هذه الحرب، رغم وحشيتها، تكشف أيضاً عن إصرار الفلسطيني على الصمود، حتى وإن تُرك وحيداً أمام آلة لا ترحم.