في سرير صغير بمستشفى ناصر في خان يونس، يرقد الطفل عمرو الهمص، ابن الثلاثة أعوام، لا يدرك ما يدور حوله، ولا يعلم أن حضن أمه لن يعود، وأن صوت أبيه قد صمت إلى الأبد، وأن البيت الذي كان يركض فيه لم يعد له وجود. جسده الصغير مثقل بجراح الحرب، وروحه الندية فقدت كل من كان يُشكّل عالمها. عمرو، لم ينجُ من القصف فقط، بل نجا من فقدٍ لا يُحتمل، من فراغٍ لا يُملأ، من كارثة لا تُداوى بالدواء.
مأساة الطفل عمرو
عمرو لم يكن في موقع عسكري، ولم يكن يهدد أحداً. كان مجرد طفل، يخطو أولى سنواته في الحياة، يتعلم النطق، ويضحك دون سبب، ويعبث بلعبه الصغيرة التي لا يعرف الآن أين هي. القصف الإسرائيلي على شمال غزة محا عائلته، بيتهم، ودفاتره التي ربما لم يبدأ بتلوينها بعد. بقي عمرو وحده، محاطًا بأجهزة طبية وأسلاك، يئنّ من الألم، وقد لا يعرف حتى سبب بكائه. هل يبكي من الجرح؟ أم من غياب أمه؟ أم من الخوف؟ لا أحد يمكنه أن يُجيب، فالأطفال لا يعرفون أن يشرحوا الحزن، بل يعيشونه بكل براءتهم، وبكل قسوته.
قصة عمرو ليست استثناءً، بل هي فصلٌ من رواية جماعية مؤلمة يكتبها أطفال غزة بدموعهم ودمائهم. هناك آلاف مثل عمرو، صغار فقدوا آباءهم، إخوتهم، بيوتهم. أطفال لا يملكون رفاهية أن يبكوا على فقدان ألعابهم، لأنهم يبكون على من كان يشتريها لهم، على من كان يحملهم حين ينامون، على من كان يخبرهم أن كل شيء سيكون على ما يرام.
ذبح الطفولة
هؤلاء الأطفال لا يحتاجون فقط إلى دواء أو علاج جسدي، بل يحتاجون إلى معجزة تُعيد لهم ما لا يُعاد: الشعور بالأمان. يحتاجون إلى من يصدق آلامهم، من يحكي قصصهم، من يقول للعالم إن الطفولة في غزة تُذبح كل يوم، بلا رحمة، بلا خجل، بلا حتى دقيقة صمت.
عمرو قد يشفى جسده، لكن من سيعالج ذاكرته؟ من سيخبره حين يكبر أين ذهب أهله؟ من سيشرح له لماذا كُتب عليه أن يعيش اليُتم قبل أن يحفظ أسماء أفراد عائلته؟ هل سيجد حضنًا دافئًا؟ هل سيضحك من قلبه مرة أخرى؟ كل هذه الأسئلة لا يملك الطب جوابًا عليها، ولا تملك السياسة مبررًا لها.
فشل الإنسانية
في غزة، يُولد الأطفال تحت الحصار، ويعيشون بين الأنقاض، ويكبرون في ظل الحرب، وفي كل هذا، يُطلب منهم أن يكونوا طبيعيين. لكن عمرو، وأمثاله، ليسوا أرقاماً في تقارير المنظمات، ولا صوراً مؤقتة في نشرات الأخبار، هم أرواح حقيقية، بشراً صغاراً خذلهم العالم.
قصة عمرو ليست فقط قصة طفل فقد عائلته، بل قصة وطن تُغتال طفولته يومياً، بلا رادع، بلا عدالة، وبصمتٍ عالمي موجع. وكل من ينظر في عيني عمرو، عليه أن يتذكّر: هذا الطفل ليس مجرد ناجٍ، بل شاهد حي على فشل الإنسانية.