يمثل استهداف المدنيين الفلسطينيين أثناء تجمعهم لتسلّم المساعدات الإنسانية في محور نتساريم وسط قطاع غزة، كما ورد في تقارير الشهود والمصادر الطبية، تطوراً خطيراً يعكس تعمق الأزمة الإنسانية وتعقيداتها السياسية في القطاع. الحادث الذي أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 18 مدنياً، وفق وزارة الصحة في غزة، جاء في وقتٍ تشهد فيه المناطق الوسطى والشمالية من القطاع نقصاً حاداً في الغذاء والدواء، ويكابد فيه السكان للبقاء على قيد الحياة في ظل حصار خانق وظروف معيشية كارثية.
الحصار واستخدام القوة المفرطة
الدلالة الأولى لهذا الحدث تكمن في إصرار الجيش الإسرائيلي على مواصلة سياسات الحصار واستخدام القوة المفرطة، حتى في المواقع المرتبطة بتوزيع المساعدات. وبحسب الروايات المتطابقة من شهود العيان والمؤسسات الصحية، فإن إطلاق النار وقع في نقطة توزيع تخضع لإشراف مؤسسة دولية مدعومة من أميركا وإسرائيل، ما يسلط الضوء على تناقض واضح بين التصريحات الغربية بشأن دعم جهود الإغاثة، وبين الممارسات الميدانية التي تؤدي إلى سقوط ضحايا بين المدنيين أثناء محاولتهم الحصول على الحد الأدنى من مقومات البقاء.
هذا الاستهداف المتكرر – الذي لم يكن الأول من نوعه – يعكس نمطاً متكرراً من استخدام القوة في غير ميدان القتال، ما يُعد وفق القانون الدولي الإنساني انتهاكاً صارخاً لمبدأ حماية المدنيين، خصوصاً في حالات النزاع المسلح. وقد سبق لمنظمات دولية مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر وهيومن رايتس ووتش أن أدانت علناً هذه الممارسات، ووصفتها بأنها تقوّض العمل الإنساني وتزيد من تفاقم الكارثة الإنسانية.
تدهور الوضع المعيشي
ورغم إشراف مؤسسات دولية على عمليات التوزيع، فإن استمرار استهداف نقاط المساعدات يثير تساؤلات حول مدى التزام الجيش الإسرائيلي بتأمين “الممرات الإنسانية”، التي يُفترض أن تكون محمية وفق اتفاقيات جنيف، بل ويضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته، خاصةً في ما يتعلق بتوفير الحماية للمدنيين وضمان وصول المساعدات دون عراقيل أو تهديدات.
الوضع يتفاقم مع استمرار الحصار المشدد الذي فرضه الجيش الإسرائيلي منذ الثاني من مارس، ما أدى إلى شلل شبه كامل في حركة دخول المواد الغذائية والطبية. هذه القيود تسببت في تدهور الوضع المعيشي إلى مستوى حرج، دفع منظمات أممية مثل برنامج الأغذية العالمي ومنظمة الصحة العالمية إلى إطلاق تحذيرات متكررة من خطر وقوع مجاعة في القطاع خلال أسابيع ما لم تُتخذ إجراءات عاجلة.
وفي ظل هذا التصعيد، تعكس ردود فعل المنظمات الإغاثية الدولية حالة من الإحباط المتزايد، حيث أصبحت جهودها تُقابل إما بالمنع أو بالاستهداف، مما يجعل استمرار عملها في غزة محفوفاً بالمخاطر وغير مضمون النتائج. هذه المعضلة تضع المجتمع الدولي، لا سيما الأطراف الراعية لعمليات الوساطة (مثل الولايات المتحدة وقطر ومصر)، أمام اختبار حقيقي لمدى قدرتها على ضمان احترام القانون الإنساني وتوفير الحد الأدنى من الحماية للمدنيين.
انعدام العدالة الدولية
الاستهداف المتكرر لنقاط توزيع المساعدات يكشف بوضوح أن الحرب في غزة لم تعد مقتصرة على العمليات العسكرية، بل دخلت طوراً جديداً من المعاقبة الجماعية وفرض الجوع كوسيلة للضغط السياسي، وهو أمر يضع علامات استفهام كبرى حول النوايا الحقيقية خلف استمرار تعطيل الجهود الإنسانية، ويعزز الشعور بانعدام العدالة الدولية لدى الفلسطينيين.
حادثة نتساريم الأخيرة ليست مجرد مأساة إنسانية إضافية، بل تمثل مؤشراً خطيراً على تحلل منظومة الحماية الدولية في المناطق المنكوبة، وتستدعي تحركاً عاجلاً لإعادة الاعتبار للمسؤولية القانونية والأخلاقية التي يجب أن يتحملها المجتمع الدولي، لا سيما القوى الكبرى التي تتبنى خطاباً إنسانياً لكنها تُتهم في الوقت نفسه بدعم أطراف الصراع دون رادع.