يمثل قطع خدمات الإنترنت والاتصالات الثابتة عن قطاع غزة تطوراً خطيراً في مسار الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ أكتوبر 2023، ويكشف عن بُعد جديد من الأهداف العسكرية والسياسية التي تتجاوز حدود المواجهة التقليدية. فاستهداف آخر خط للألياف الضوئية (فايبر أوبتك) في القطاع لا يمكن تفسيره فقط كتحرك تقني أو عرضي، بل يبدو وكأنه خطوة ممنهجة تسعى إلى تعميق عزل غزة وتحويلها إلى منطقة معتمة إعلامياً وإنسانياً.
شلل في العمليات الإغاثية
تأتي هذه الخطوة في وقت يشهد فيه القطاع واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في تاريخه، إذ تُشير الأرقام الرسمية إلى أكثر من 55 ألف قتيل وأكثر من 127 ألف مصاب. هذه المعطيات، إلى جانب التدمير الشامل للبنية التحتية، تؤكد أن الحرب لم تعد فقط ضد فصائل مسلحة، بل تحوّلت إلى حرب على الحياة المدنية بكل تفاصيلها.
الحرمان من وسائل الاتصال لا يُعطّل فقط إمكانيات الإعلام المستقل أو التواصل بين السكان وذويهم، بل يضرب أيضاً قدرة المؤسسات الإنسانية، وعلى رأسها فرق الدفاع المدني، في أداء مهامها، حيث أشار الدفاع المدني في شمال غزة إلى صعوبة تحديد مواقع القصف بسبب انقطاع الإرسال. هذا العجز يعكس ما يشبه الشلل في العمليات الإغاثية، وهو ما قد يزيد من عدد الضحايا الذين لا تصل إليهم المساعدات في الوقت المناسب.
عقاب الجماعي تجرّمه اتفاقيات جنيف
سياسياً، يحمل هذا التطور دلالات تتعدى البُعد الميداني، إذ يكشف رغبة إسرائيل في فرض تعتيم شامل على ما يجري في القطاع، خاصة مع تصاعد الإدانات الدولية واستمرار المطالبات بالتحقيق في انتهاكات قد ترقى إلى جرائم حرب. في ظل هذه السياقات، يصبح التحكم بالمعلومات جزءاً من أدوات الصراع، ومحاولة لتقليل كلفة الحرب إعلامياً على الحكومة الإسرائيلية في الداخل والخارج.
من الناحية القانونية، فإن عزل المدنيين عن العالم الخارجي عبر تدمير البنية التحتية للاتصالات يُعد انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني، الذي ينص على حماية السكان المدنيين وتيسير سبل الإغاثة الإنسانية. كما أن حرمان المدنيين من التواصل يعد نوعاً من “العقاب الجماعي” الذي تجرّمه اتفاقيات جنيف، خصوصاً إذا تم ضمن سياسة منهجية تستهدف حرمانهم من الحقوق الأساسية، ومنها الحق في طلب النجدة والتواصل مع منظمات الإغاثة.
السلطة الفلسطينية، من جهتها، بادرت إلى تحميل إسرائيل مسؤولية قطع الاتصالات، ما يعكس رغبة في فضح البُعد المُمنهج لهذا الإجراء، ولفت الأنظار الدولية إلى ما يحدث من تصعيد في أدوات الحرب النفسية والعزل المعلوماتي. لكن يبقى التحدي قائماً في كيفية إعادة ربط غزة بالعالم، لا سيما في ظل غياب آليات فاعلة لفرض الالتزام بالقانون الدولي على إسرائيل، أو لردعها عن استخدام مثل هذه الأدوات.
مساءلة إسرائيل
إن قطع الاتصالات في هذا التوقيت ليس مجرد حدث تقني عابر، بل هو تعبير عن نية استراتيجية لإسكات صوت غزة، وتحويل معاناة سكانها إلى مأساة غير مرئية. هذا الصمت القسري لا يخدم فقط الأهداف العسكرية، بل يُسهم أيضاً في طمس الأدلة، وتفريغ الساحة من أي رواية فلسطينية يمكن أن تصمد أمام السردية الرسمية الإسرائيلية.
فقدان غزة لصوتها واتصالها بالعالم في هذه المرحلة الحرجة من الحرب هو جزء من مشهد أوسع يتضمن تدمير الذاكرة، وقتل الشهود، وعزل المحاصرين. وهو مشهد يجب أن يستفز الضمير العالمي، لا فقط لدفع نحو إعادة الاتصالات، بل لمساءلة شاملة عن الأساليب غير التقليدية التي باتت تستخدمها إسرائيل في حرب لا هوادة فيها على الإنسان الفلسطيني في كل ما يمثله.