تعيش مدينة القدس هذه الأيام أجواء غير اعتيادية من التوتر والقلق، ليس فقط على المستوى السياسي والعسكري، وإنما أيضاً في ميادين الحياة اليومية، وأبرزها التعليم، حيث بات طلبة الثانوية العامة “التوجيهي” في قلب معادلة صعبة تضع مستقبلهم الأكاديمي رهينة لقرارات أمنية مفاجئة وظروف استثنائية تتسارع يوماً بعد يوم، على خلفية الحرب المتصاعدة بين إسرائيل وإيران.
تحكمات السلطات الإسرائيلية
في ظل حالة الطوارئ التي فرضتها “الجبهة الداخلية الإسرائيلية” منذ يوم الجمعة، وتعليماتها الصارمة بإغلاق المدارس ومنع التجمعات، لم يعد الحديث عن الامتحانات المقبلة بعد أربعة أيام مجرد قضية تنظيمية، بل بات ملفاً مقلقاً يرتبط ارتباطاً مباشراً بسلامة الطلبة وقدرتهم على الوصول إلى مراكز الامتحان أصلاً، ناهيك عن الاستعداد النفسي المطلوب لأداء هذا الاستحقاق المصيري في حياة آلاف الطلبة.
ورغم التطمينات الرسمية التي صدرت عن وزارة التربية والتعليم في القدس، ممثلة بمدير مكتبها الأستاذ سمير جبريل، والتي أكدت أن الامتحانات لا تزال قائمة في موعدها حتى اللحظة، فإن هذا الموقف لا يلغي هشاشة الواقع الذي تعيشه المدينة، وخصوصاً أن القرار النهائي لا يرتبط فقط بالوزارة الفلسطينية، بل هو مرهون بتعليمات السلطات الإسرائيلية التي تتحكم بحركة الطلبة، وفتح المدارس، وضمان الحد الأدنى من الاستقرار الذي يتطلبه عقد الامتحانات.
تعقيد وصول الطلبة إلى مراكز الامتحان
التجربة الفلسطينية مع الظروف الاستثنائية ليست جديدة. سبق وأن تأجلت الامتحانات في جنين وطولكرم بسبب التوترات الأمنية، ما يفتح الباب أمام احتمالية أن يتكرر السيناريو في القدس، خاصة إذا لم يحدث أي تغيير في التعليمات الإسرائيلية قبل موعد الامتحانات. ومع أن الجهات الرسمية تؤكد أن كل التحضيرات اللوجستية قد أنجزت بالكامل، من تجهيز القاعات وتوزيع الطواقم الإدارية، فإن العقبة الأساسية تكمن في إمكانية تنفيذ هذه التحضيرات على أرض الواقع في ظل الظروف الأمنية المتقلبة.
الأستاذ زياد الشمالي، رئيس اتحاد أولياء الأمور في مدارس القدس، سعى بدوره إلى طمأنة الأهالي والطلبة، مؤكدًا أن اللجنة المشرفة على الامتحانات في تواصل دائم مع الجهات المعنية، وأن أي قرار سيتخذ لن يكون على حساب سلامة الطلاب. لكنه، في الوقت نفسه، لم يُخفِ التحديات التي تواجه العملية التعليمية، خاصة فيما يتعلق بتعطيل المواصلات العامة، والتي زادت من تعقيد وصول الطلبة إلى مراكز الامتحان، ما قد يخلق فجوة في العدالة التعليمية وفرص الطلبة.
قرارات فوقية خارجة عن السياق التعليمي
وسط هذا المشهد، تبرز معاناة الطلبة أنفسهم، الذين عبّروا عن حالة من الارتباك والضغط النفسي المتزايد. الطالب محمد بركات، أحد طلبة الثانوية العامة، عبّر عن هذا التوتر بوضوح: “أتممنا الدراسة بالكامل، لكننا نعيش وضعاً استثنائياً؛ هناك إنذارات متواصلة، ومخاوف من التصعيد في أية لحظة”. هذا القلق انعكس على قدرة الطلبة على تنظيم وقتهم واستكمال مراجعتهم النهائية، ما يشير إلى أن الضرر النفسي قد يكون أشد وطأة من الضرر الأكاديمي في هذه المرحلة.
الامتحانات في القدس اليوم لم تعد مجرّد موعد دراسي، بل أصبحت رمزاً لصراع أوسع يخوضه الفلسطيني المقدسي بين استحقاقاته الحياتية اليومية، وسياقات سياسية وأمنية تفرض نفسها على كل شيء، بما في ذلك حقه في التعليم. وبقدر ما تسعى الجهات التعليمية والرسمية إلى طمأنة الطلبة، فإن الواقع يشي بصعوبة الموازنة بين المعطى الأمني والمعطى الأكاديمي، خصوصاً في مدينة تخضع لسلطات متداخلة ونظام احتلال يجعل من كل خطوة بسيطة رهناً لقرارات فوقية خارجة عن السياق التعليمي البحت.
ما يعيشه طلبة التوجيهي في القدس هذه الأيام هو انعكاس مباشر لحالة عامة من عدم اليقين تعصف بالمنطقة بأسرها، حيث تتحول الامتحانات إلى اختبار آخر من اختبارات الصمود في وجه الحرب، ويغدو القلم مرادفاً آخر لمعركة لا تقل أهمية عن المعارك العسكرية الجارية، لكنها تجري في قاعات دراسية شبه مغلقة، وقلوب طلاب تنبض بالقلق والخوف… وربما الأمل.