تعيش مدينة القدس مرحلة خطيرة من التصعيد الإسرائيلي، حيث باتت الإجراءات الميدانية المتسارعة تشير إلى تحول تدريجي نحو خنق المدينة تمامًا، تمهيدًا لفصلها الكامل عن محيطها الفلسطيني. هذه السياسات لا تقتصر على الجوانب الأمنية الظاهرة، بل تنطوي على أبعاد استراتيجية تهدف إلى إعادة تشكيل الطابع الديمغرافي والجغرافي للقدس، بما يخدم مشروع “القدس الكبرى” الإسرائيلي، ويقوض أي أفق لحل عادل للقضية الفلسطينية.
أدوات قمعية تعزل الأحياء
تركيب البوابات الحديدية الجديدة عند مداخل بلدات مثل عناتا، جبع، حزما وغيرها، يندرج ضمن سياسة إحكام الطوق الأمني والعسكري على المدينة. وتتحول هذه البوابات إلى أدوات قمعية تعزل الأحياء عن بعضها البعض، وتقيّد الحركة اليومية للفلسطينيين، في إطار سياسة ممنهجة لتقطيع أوصال القدس الشرقية. هذه الإجراءات تترافق مع تشديد على الحواجز العسكرية الرئيسية مثل قلنديا وشعفاط والكونتينر، بحيث تحوّلت حياة الفلسطينيين إلى سلسلة لا تنتهي من الانتظار والإذلال، وهو ما يمثّل عقابًا جماعيًا هدفه الأساس كسر إرادة السكان ودفعهم إلى الهجرة القسرية البطيئة.
اللافت أن هذا التصعيد يجري في ظل انشغال العالم بتداعيات الحرب بين إسرائيل وإيران، وهو ظرف تستغله سلطات الاحتلال لتوسيع حدود بلدية القدس، وتمرير مشاريع استيطانية جديدة بعيدًا عن الرقابة الدولية. وفي هذا السياق، تبدو سياسات التهجير الصامت والتضييق الاقتصادي والاجتماعي أشد فتكًا من القصف العسكري، إذ تهدف إلى تحويل حياة المقدسيين إلى عبء لا يُحتمل، ودفعهم تدريجيًا إلى مغادرة مدينتهم.
ترهيب أمني
الإغلاق شبه الكامل للمدينة عبر 85 حاجزًا ثابتًا ومتنقلاً، إضافة إلى الجدار الفاصل، يجعل القدس في واقع الأمر مدينة مغلقة تخضع لنظام فصل عنصري صارم. وتتحوّل هذه السيطرة الميدانية إلى وسيلة لتطبيق مشروع الضم الزاحف، حيث يتم فرض الأمر الواقع عبر القوة، مع تغليف ذلك بخطاب قانوني وإداري إسرائيلي يزعم “تنظيم الأمن” أو “إدارة الحركة المرورية”.
الممارسات اليومية التي وثقها التقرير، كتلك التي أجبرت نائب محافظ القدس على السير على الأقدام لمسافات طويلة بسبب الإغلاق، تعكس حجم المعاناة التي يواجهها آلاف المقدسيين يوميًا. كما أن انتشار الحواجز المتحركة في بلدات مثل سلوان والعيسوية يكرّس جوًا من الترهيب الأمني المستمر، ويحول الأحياء السكنية إلى مناطق تماس دائمة تحت المراقبة والتفتيش.
حشد إعلامي وسياسي
التوسع الاستيطاني والتهويد لا يستهدف فقط الأرض والمكان، بل يمتد إلى طمس الهوية الثقافية والدينية للمدينة، عبر السيطرة على المقدسات، وفرض رواية إسرائيلية أحادية تتنكر لوجود الشعب الفلسطيني وحقوقه التاريخية. والمقلق أن كل ذلك يتم وسط صمت دولي شبه كامل، يمنح إسرائيل الغطاء اللازم للمضي قدمًا في مخططاتها دون مساءلة.
في ظل هذه المعطيات، يصبح الحديث عن خطر محدق بمدينة القدس أمرًا لا يقبل التأجيل. فالمعركة اليوم هي معركة بقاء ووجود، تتطلب حشدًا إعلاميًا وسياسيًا واسعًا، يضع القدس في صدارة المشهد العالمي من جديد. مواجهة سياسات التهويد تبدأ بكسر طوق الصمت، وفضح ممارسات الاحتلال التي تحوّل العاصمة الفلسطينية إلى سجن كبير تحت هيمنة استعمارية ممنهجة.