تتجلى رؤية تحليلية نادرة للصحفي اليهودي المقيم في ألمانيا، مارتن جاك، من الداخل الأوروبي اليهودي، تسلط الضوء على الوجه الأكثر تطرفًا للمخطط الإسرائيلي، الذي لم يعد يكتفي بالتوسع الجغرافي في إطاره التقليدي لما يُسمى بـ”إسرائيل الكبرى”، بل بات يتجاوز ذلك إلى مشروع أيديولوجي وأمني يهدف إلى الهيمنة الشاملة على الشرق الأوسط، مدعومًا بإستراتيجية عسكرية لا تقيم وزنًا للقانون الدولي، ولا تعبأ بحدود السياسة أو حدود الأخلاق.
أجندات عقائدية صلبة
يشير جاك بوضوح إلى أن إسرائيل لم تعد تعتمد الدفاع المشروع أو حتى الهجمات الوقائية، بل تمارس “تدميرًا واستئصالًا وقائيًا”، حيث تُنفَّذ العمليات العسكرية على أساس محو البيئة الإقليمية المحيطة بها، لا تحييدها أو ردعها فقط. هذا التحول من الاستراتيجية الدفاعية إلى مشروع الإبادة والاقتلاع يعبّر عن نوايا تتجاوز ما نصّت عليه المفاهيم الدينية الكلاسيكية، وتذهب باتجاه إقامة منظومة قوة مهيمنة مشابهة لنموذج الهيمنة الأميركية في العقود الماضية.
الأحداث في غزة، جنوب لبنان، سوريا، اليمن، والعدوان الأخير على إيران ليست – بحسب جاك – إلا تجليات لمخطط توسعي أكبر، تقوده حكومة يمينية متطرفة يتصدرها بنيامين نتنياهو، مدفوعًا باعتبارات شخصية تتقاطع مع أجندات عقائدية صلبة لأعضاء ائتلافه. وزراء كإيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش لا يخفون طموحاتهم العلنية بالسيطرة على أراضٍ في لبنان وسوريا وحتى مصر، ويعبرون عن هذه الطموحات بوضوح، في وقت باتت فيه إسرائيل تشعر بأنها تملك “قوة مطلقة لا رادع لها”.
جنون سياسي
التوصيف الذي قدّمه جاك لتلك الحالة بأنها “جنون سياسي” ليس مجرد تشخيص عاطفي، بل هو تحذير من سلوك دولاني يتسم بالاستهتار المدروس، يشرعن العنف ويقنّن العدوان تحت غطاء الأمن القومي، دون وجود أي مساءلة أو محاسبة دولية فعالة. لقد أصبح الإفلات من العقاب هو القاعدة، ما يشجع الحكومة الإسرائيلية على توسيع نطاق هجماتها لتشمل أي مساحة جغرافية تعتبرها خطرًا محتملاً أو حتى مصدر قلق.
المرعب في هذا السيناريو أن المخطط الإسرائيلي لم يعد مرتبطًا فقط بالتوسّع الحدودي، بل يستهدف تفكيك البنية السياسية والاجتماعية لأي كيان عربي أو إسلامي يملك قدرة على التماسك أو المقاومة. ليس من المبالغة القول إن هذا المشروع يسعى إلى تفريغ الشرق الأوسط من ملامحه الذاتية، وتحويله إلى فضاء هش مفتوح أمام التدخل الإسرائيلي العسكري والاستخباراتي والسياسي.
التفوّق التكنولوجي والدعم الغربي
حديث جاك عن أن الدور “نصف النهائي” مع إيران، و”النهائي” مع تركيا، يعكس عقلية ترى أن كل قوة إقليمية مستقلة هي خطر محتمل، ويكشف عن نزعة عدوانية تجاوزت حتى الاعتبارات الدينية لصالح تصور استراتيجي يضع إسرائيل في موقع “القوة المركزية” للمنطقة.
هذا المشروع لا يُهدد فقط الفلسطينيين أو دول الطوق، بل يهدد بنية الإقليم ككل، ويعيد صياغة مفاهيم السيادة والاستقلال والعلاقات الدولية في الشرق الأوسط. إنه شكل جديد من الاستعمار، قائم على التفوّق التكنولوجي والدعم الغربي والصمت الدولي.
تحذيرات مارتن جاك لا تصدر عن ناقد سياسي عابر، بل عن يهودي يدرك من الداخل أن ما تمارسه حكومة نتنياهو اليوم لا يمثل اليهودية، بل يشكل انقلابًا على القيم القانونية والإنسانية باسم مشروع توسعي منفلت، لا حدود له، ولا نوايا له بالتوقف.