تمثل سياسة النزوح القسري التي ينتهجها جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة واحدة من أكثر أدوات الحرب دموية وتعمقًا في تفكيك البنية السكانية والاجتماعية للفلسطينيين، لا سيما مع استمرارها منذ ما يزيد على 21 شهرًا في ظل حصار وعدوان شامل، يرقى بحسب توصيف منظمات أممية ومحكمة العدل الدولية إلى مستوى “الإبادة الجماعية”.
إعادة هندسة غزة
التحليل الموضوعي لهذه السياسة يُظهر أنها ليست مجرد إجراء عسكري ظرفي لهدف مؤقت، بل هي جزء من مخطط استراتيجي يستهدف إعادة هندسة المشهد الديموغرافي في غزة، ونزع السيطرة المدنية الفلسطينية على الأرض، وتحويل القطاع إلى مناطق شديدة التبعثر السكاني، تفتقد إلى المقومات الأساسية للحياة، ما يُسهل التحكم فيها ميدانيًا وسياسيًا في المدى الطويل.
اللافت في موجات النزوح الأخيرة هو توسيع نطاق المناطق التي يُجبر سكانها على الإخلاء، حيث شملت أحياءً مكتظة وسط مدينة غزة وشمال القطاع مثل الزيتون الشرقي، التفاح، والدرج، وهي مناطق كانت تأوي مئات آلاف السكان، بعضهم نازحون أصلاً من مناطق أخرى. هذه التوسعة توضح أن الاحتلال لم يعد يكتفي بإخلاء “مناطق اشتباك”، بل بات يعتبر التجمعات السكنية الفلسطينية ككل مناطق تهديد، وهو ما يكشف الطابع الجماعي وغير التمييزي لهذه الإجراءات، في خرق فاضح لأبسط قواعد القانون الدولي الإنساني، ولا سيما اتفاقيات جنيف.
العزل الجماعي
تحذير الاحتلال من العودة إلى “مناطق القتال الخطيرة” لا يُعد إجراءً وقائيًا، بل تكريسًا لواقع الطرد الجماعي، يعزز فكرة أن العودة ممنوعة وأن هذه المناطق باتت مستهدفة بالتطهير الجغرافي الكامل. وهذا النمط من التحذيرات يتطابق مع نماذج تاريخية من التهجير الجماعي الذي تمهَّد له بمبررات أمنية، ثم يُترجم لاحقًا بواقع دائم من السيطرة والتوطين الجديد.
النزوح القسري إلى منطقة “المواصي” جنوب القطاع هو الآخر ليس مجرد وجهة مؤقتة، بل بات رمزًا لما يمكن وصفه بـ”مناطق العزل الجماعي”، إذ تُنقل إليها عشرات الآلاف من النازحين في ظروف إنسانية كارثية تفتقر لأبسط مقومات العيش، دون أمان أو رعاية صحية أو غذائية، ما يجعلها أقرب إلى “معازل بشرية قسرية” تُفرَض على السكان كواقع لا يملكون حياله خيارًا.
المأساة تتعمق حين نضع هذه السياسة ضمن إطار الإبادة الجماعية الشاملة التي تقترفها إسرائيل بحق القطاع منذ 7 أكتوبر 2023، والتي تتجاوز القتل المباشر إلى استخدام التهجير والمجاعة والتجويع كأسلحة إبادة ناعمة ومركبة. الأرقام المتداولة – نحو 189 ألف شهيد وجريح، وأكثر من 11 ألف مفقود – ليست أرقامًا جامدة، بل شهادة دامغة على الطابع الاستئصالي لهذا العدوان، الذي يهدف إلى تفكيك المجتمع الفلسطيني ماديًا وإنسانيًا، لا مجرد إخضاعه عسكريًا.
صمت دولي فاضح
ورغم صدور أوامر من محكمة العدل الدولية بوقف العدوان، تتجاهل إسرائيل تلك الأوامر وسط صمت دولي فاضح، ما يجعل من عملية التهجير القسري جريمة مستمرة ومعلنة، ترتكبها دولة تدّعي أنها “ديمقراطية”، بينما تمارس أساليب طرد جماعي لا تختلف في جوهرها عن أكثر النماذج التاريخية سوادًا، من البلقان إلى رواندا.
في هذا السياق، فإن النزوح القسري في غزة ليس مجرد نتيجة للحرب، بل أداة حرب في ذاتها، تُستخدم لتركيع المجتمع الفلسطيني وإرغامه على القبول بالواقع الذي يراد فرضه بالقوة: واقع بلا أرض، بلا سيادة، بلا أمل، وبلا دولة.